شفاء الأعمى
تبدأ القصة بمرور يسوع وتلاميذه برجل أعمى منذ ولادته. يسأل التلاميذ يسوع: “يا معلم، من أخطأ، هذا أم أبواه حتى ولد أعمى؟” (يوحنا 9: 2). يجيب يسوع بأن سبب العمى ليس خطيئة الرجل أو والديه، بل “ليظهر أعمال الله فيه” (يوحنا 9: 3). هذه الإجابة تعكس فكرة مهمة في إنجيل يوحنا، وهي أن يسوع جاء ليُظهر مجد الله وأعماله من خلال معجزاته.
ثم يقوم يسوع بعمل عجيب. يبصق على الأرض، ويصنع من البصاق طيناً، ويطلي به عيني الأعمى. ثم يأمر الأعمى أن يذهب ويغتسل في بركة سلوام. يطيع الأعمى أمر يسوع، ويذهب ويغتسل، ويعود بصيراً. هذه المعجزة تحدث تغييراً جذرياً في حياة الرجل، وتصبح نقطة تحول في مجتمعه.
الجدال مع الفريسيين
عندما رأى الجيران والأشخاص الذين اعتادوا رؤية الأعمى وهو يستجدي، لم يصدقوا أن هذا هو نفس الشخص. تساءلوا كيف أمكن لشخص أعمى أن يبصر فجأة. أخذوا الرجل الذي كان أعمى إلى الفريسيين، لأن يسوع صنع الطين وشفاه في يوم السبت، وهو يوم مقدس لدى اليهود يحرم فيه العمل.
بدأ الفريسيون في استجواب الرجل. سألوه كيف استعاد بصره، فأجابهم ببساطة أنه وضع طيناً على عينيه، واغتسل، فأبصر. انقسم الفريسيون حول يسوع. قال البعض إنه ليس من الله، لأنه لا يحفظ السبت. وقال آخرون: “كيف يقدر إنسان خاطئ أن يعمل مثل هذه الآيات؟” (يوحنا 9: 16). هذا الانقسام يظهر الصراع الداخلي بين الفريسيين حول طبيعة يسوع وسلطته.
لم يقتنع الفريسيون بإجابة الرجل، فاستدعوا والديه. سألوهما: “أهذا ابنكما الذي تقولان إنه ولد أعمى؟ فكيف يبصر الآن؟” (يوحنا 9: 19). أجاب الوالدان بأنه ابنهما، وأنه ولد أعمى، ولكنهما لا يعرفان كيف أبصر الآن، ولا يعرفان من شفاه. خاف الوالدان من الفريسيين، لأنهم اتفقوا على أن من يعترف بأن يسوع هو المسيح، يُطرد من المجمع. لذلك، أحالا الفريسيين إلى ابنهما ليسألوه هو.
استدعى الفريسيون الرجل مرة أخرى، وحاولوا الضغط عليه لينكر أن يسوع هو الذي شفاه. قالوا له: “أعط مجداً لله. نحن نعلم أن هذا الإنسان خاطئ” (يوحنا 9: 24). لكن الرجل أجاب بجرأة: “أهو خاطئ لست أعلم. إنما أعلم شيئاً واحداً: أني كنت أعمى والآن أبصر” (يوحنا 9: 25). هذه الإجابة البسيطة والقوية تعبر عن شهادة شخصية لا يمكن دحضها.
حاول الفريسيون مراراً وتكراراً أن يستفزوا الرجل، ويسألوه أسئلة متكررة، لكنه ظل ثابتاً في شهادته. في النهاية، قال لهم: “قد أخبرتكم ولم تسمعوا. لماذا تريدون أن تسمعوا أيضاً؟ ألعلكم تريدون أن تصيروا له تلاميذ؟” (يوحنا 9: 27). هذه الإجابة الساخرة أغضبت الفريسيين، فسبوه وقالوا: “أنت تلميذ ذاك، أما نحن فتلاميذ موسى. نحن نعلم أن الله كلم موسى، وأما هذا فما نعلم من أين هو” (يوحنا 9: 28-29).
أجاب الرجل: “في هذا عجب! أنكم لا تعلمون من أين هو، وقد فتح عيني. نعلم أن الله لا يسمع للخطاة. ولكن إن كان أحد يتقي الله ويفعل مشيئته، فله يسمع. منذ الدهر لم يُسمع أن أحداً فتح عيني مولود أعمى. لو لم يكن هذا من الله، لم يقدر أن يفعل شيئاً” (يوحنا 9: 30-33). هذا الرد المنطقي واللاهوتي أثار غضب الفريسيين أكثر، فطردوه خارج المجمع.
يسوع يكشف عن هويته
سمع يسوع أنهم طردوا الرجل، فذهب إليه وسأله: “أتؤمن بابن الله؟” (يوحنا 9: 35). سأل الرجل: “من هو يا سيد لأؤمن به؟” (يوحنا 9: 36). قال له يسوع: “قد رأيته، والذي يتكلم معك هو هو” (يوحنا 9: 37). حينئذ سجد له الرجل وقال: “أؤمن يا سيد!” (يوحنا 9: 38).
بعد ذلك، قال يسوع: “لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم، حتى يبصر الذين لا يبصرون، ويعمى الذين يبصرون” (يوحنا 9: 39). سمع بعض الفريسيين الذين كانوا معه هذا الكلام، فقالوا له: “ألعلنا نحن أيضاً عميان؟” (يوحنا 9: 40). قال لهم يسوع: “لو كنتم عمياناً لما كانت لكم خطية. ولكن الآن تقولون: إننا نبصر، فخطيتكم باقية” (يوحنا 9: 41). هذا الكلام يكشف أن العمى الحقيقي ليس العمى الجسدي، بل العمى الروحي، وأن الفريسيين كانوا مصرين على عدم رؤية الحق الذي كان أمامهم.
دلالات القصة
تتضمن قصة شفاء الأعمى في يوحنا 9 العديد من الدلالات اللاهوتية والروحية الهامة:
- يسوع هو نور العالم: يظهر يسوع كنور للعالم، القادر على إزالة الظلام الجسدي والروحي.
- الإيمان والاستبصار الروحي: تركز القصة على أهمية الإيمان بيسوع المسيح، الذي يؤدي إلى الاستبصار الروحي الحقيقي.
- المقاومة والرفض: تكشف القصة عن المقاومة والرفض الذي واجهه يسوع من قبل القادة الدينيين، الذين فضلوا التمسك بتقاليدهم على قبول الحق.
- الشهادة الشخصية: تبرز أهمية الشهادة الشخصية عن اختبار المسيح، والتي لا يمكن دحضها.
- الدينونة: تشير القصة إلى أن مجيء يسوع هو دينونة للعالم، حيث يكشف عن قلوب الناس ويكشف الحقائق المخفية.
الرموز في القصة
تستخدم القصة العديد من الرموز التي تعمق فهمنا لرسالتها:
- الأعمى: يمثل الأعمى البشرية الضالة التي تحتاج إلى نور المسيح.
- الطين: يرمز إلى طبيعة يسوع البشرية، وتجسده في الجسد.
- بركة سلوام: تعني “مرسل”، وترمز إلى يسوع المسيح المرسل من الله.
- الفريسيون: يمثلون القادة الدينيين الذين يتمسكون بالشكلية والتقاليد، ويرفضون قبول الحق.
تفسيرات أخرى للقصة
بالإضافة إلى التفسيرات اللاهوتية والروحية، يمكن النظر إلى القصة من زوايا أخرى:
- المنظور الاجتماعي: يمكن اعتبار القصة بمثابة تعليق على التمييز والإقصاء الاجتماعي الذي يعاني منه الأشخاص ذوو الإعاقة.
- المنظور النفسي: يمكن اعتبار القصة بمثابة رحلة تحول شخصي، حيث ينتقل الشخص من حالة الظلام واليأس إلى حالة النور والأمل.
- المنظور التاريخي: يمكن اعتبار القصة بمثابة انعكاس للصراع بين يسوع والسلطات الدينية في عصره.
تأثير القصة على الفن والأدب
ألهمت قصة شفاء الأعمى في يوحنا 9 العديد من الفنانين والكتاب على مر العصور. تم تصوير القصة في العديد من اللوحات والمنحوتات والأفلام. كما تم استخدامها كمصدر إلهام للعديد من الأعمال الأدبية التي تتناول موضوعات مثل الإيمان والأمل والتحول.
خاتمة
يوحنا 9 هي قصة مؤثرة تتناول موضوعات هامة مثل الإيمان، والاستبصار الروحي، والمقاومة، والتحول. تذكرنا القصة بأن يسوع هو نور العالم، وأن الإيمان به يؤدي إلى رؤية الحق وإدراك مجد الله. كما تحذرنا من خطر العمى الروحي والتمسك بالتقاليد على حساب الحق.