مقدمة
إنجيل متى هو أول أسفار العهد الجديد في الكتاب المقدس، ويقدم لنا صورة شاملة عن حياة يسوع المسيح وتعليمه ورسالته. يعتبر إنجيل متى من أهم المصادر لفهم المسيحية وتاريخها، ويتميز بتركيزه على تحقيق نبوات العهد القديم في شخص يسوع. الأصحاح الثامن عشر من إنجيل متى يحمل أهمية خاصة، إذ يتضمن الخطاب الرابع من الخطابات الخمسة الكبرى ليسوع في هذا الإنجيل، والذي يُعرف بـ “خطاب الكنيسة”.
سياق الأصحاح 18
يأتي الأصحاح الثامن عشر بعد سلسلة من الأحداث الهامة في حياة يسوع، بما في ذلك شفاء المرضى وطرد الأرواح الشريرة، وإعلان بطرس أن يسوع هو المسيح ابن الله الحي. في هذا السياق، يبدأ يسوع في إعداد تلاميذه لمستقبله، الذي يتضمن موته وقيامته. الأصحاح الثامن عشر يقدم إرشادات وتعليمات حول كيفية عيش حياة مسيحية حقيقية في مجتمع المؤمنين، مع التركيز على التواضع والمغفرة والانضباط.
محتوى الأصحاح 18
يمكن تقسيم الأصحاح الثامن عشر إلى عدة أقسام رئيسية، كل منها يتناول موضوعًا مهمًا يتعلق بحياة الكنيسة:
- من هو الأعظم في ملكوت السماوات (متى 18: 1-5): يبدأ الأصحاح بسؤال التلاميذ ليسوع عن من هو الأعظم في ملكوت السماوات. يجيب يسوع على هذا السؤال بطريقة غير متوقعة، إذ يدعو طفلاً صغيرًا ويضعه في وسطهم، قائلاً: “اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وَتَصِيرُوا مِثْلَ الأَوْلاَدِ فَلَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ.” (متى 18: 3).
- تحذير من إعثار الصغار (متى 18: 6-9): يحذر يسوع بشدة من إعثار المؤمنين الصغار، سواء كانوا صغارًا في السن أو صغارًا في الإيمان. يؤكد يسوع على خطورة إبعاد أي شخص عن الإيمان، ويستخدم صورًا قوية للتعبير عن هذه الخطورة، مثل قطع اليد أو الرجل أو قلع العين إذا كانت سبب عثرة.
- مثل الخروف الضال (متى 18: 10-14): يقدم يسوع مثل الخروف الضال ليؤكد على قيمة كل فرد في نظر الله. يشبه يسوع الله بالراعي الذي يترك القطيع المكون من تسعة وتسعين خروفًا ليذهب ويبحث عن الخروف الضال الواحد. يفرح الراعي بالخروف الضال أكثر من التسعة والتسعين الذين لم يضلوا.
- كيفية التعامل مع الأخ المخطئ (متى 18: 15-20): يقدم يسوع إرشادات عملية حول كيفية التعامل مع الأخ الذي يخطئ. ينصح يسوع بالتحدث مع الأخ المخطئ على انفراد أولاً، ثم أخذ شاهد أو شاهدين معه إذا لم يستمع. إذا لم يستمع للأخوة، يجب إخبار الكنيسة. إذا لم يستمع للكنيسة، يجب معاملته كوثني أو جابي ضرائب.
- سلطان الربط والحل (متى 18: 18): يؤكد يسوع على السلطان الذي يمنحه لتلاميذه في الربط والحل، أي في اتخاذ قرارات ملزمة بشأن الأمور الروحية والأخلاقية. يقول يسوع: “اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَاءِ، وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاءِ.” (متى 18: 18).
- قوة الصلاة الجماعية (متى 18: 19-20): يؤكد يسوع على قوة الصلاة الجماعية، قائلاً: “وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا: إِنِ اتَّفَقَ اثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى الأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ.” (متى 18: 19-20).
- مثل العبد الذي لم يرحم (متى 18: 21-35): يجيب يسوع على سؤال بطرس عن عدد المرات التي يجب أن يغفر فيها للأخ الذي يخطئ إليه. يقدم يسوع مثل العبد الذي لم يرحم ليؤكد على أهمية المغفرة غير المشروطة. يشبه يسوع الله بالملك الذي سامح عبده بدين كبير، لكن العبد لم يرحم زميله الذي كان مديونًا له بمبلغ صغير.
تحليل تفصيلي لأهم الموضوعات
التواضع والأهمية في ملكوت السماوات
يبدأ الأصحاح بسؤال التلاميذ عن من هو الأعظم في ملكوت السماوات. هذا السؤال يكشف عن طموحات بشرية طبيعية، لكن يسوع يقدم ردًا يقلب الموازين. يوضح يسوع أن العظمة في ملكوت السماوات لا تقاس بالمكانة أو السلطة، بل بالتواضع والتشبه بالأطفال. الطفل يمثل البراءة والاعتماد الكامل على الآخرين، وهذه هي الصفات التي يجب أن يتحلى بها المؤمنون.
المغفرة غير المشروطة
يشدد الأصحاح على أهمية المغفرة غير المشروطة. يقدم يسوع مثل العبد الذي لم يرحم ليؤكد على أننا مدينون لله بمغفرة عظيمة، وبالتالي يجب أن نكون مستعدين لمغفرة الآخرين بغض النظر عن حجم الإساءة. المغفرة ليست مجرد فضيلة أخلاقية، بل هي أساس العلاقة الصحيحة مع الله ومع الآخرين.
الانضباط الكنسي
يقدم الأصحاح إرشادات عملية حول كيفية التعامل مع الأخ المخطئ. هذه الإرشادات تهدف إلى الحفاظ على نقاء الكنيسة وحماية المؤمنين من تأثير الخطية. عملية الانضباط الكنسي يجب أن تتم بحكمة ومحبة، مع الحرص على استعادة الأخ المخطئ إلى الشركة.
قوة الصلاة الجماعية
يؤكد الأصحاح على قوة الصلاة الجماعية. يعد يسوع بأن حضوره سيكون حاضرًا في وسط الذين يجتمعون باسمه للصلاة. الصلاة الجماعية هي وسيلة قوية لطلب معونة الله وللتعبير عن الوحدة والتضامن بين المؤمنين.
تفسيرات لاهوتية
يقدم الأصحاح الثامن عشر العديد من المفاهيم اللاهوتية الهامة، بما في ذلك:
- طبيعة ملكوت السماوات: يوضح الأصحاح أن ملكوت السماوات ليس مجرد مكان جغرافي، بل هو حالة قلبية وعلاقة مع الله.
- قيمة الفرد في نظر الله: يؤكد الأصحاح على أن الله يهتم بكل فرد، حتى الضال والمهمش.
- أهمية الجماعة المسيحية: يوضح الأصحاح أن الكنيسة هي مجتمع المؤمنين الذي يجب أن يسعى إلى الوحدة والمحبة والانضباط.
- سلطان الكنيسة: يؤكد الأصحاح على أن الكنيسة لديها سلطان روحي للربط والحل، ولكن هذا السلطان يجب أن يمارس بحكمة ومحبة.
تطبيقات عملية
يمكن تطبيق تعليمات الأصحاح الثامن عشر في حياتنا اليومية من خلال:
- التواضع في علاقاتنا مع الآخرين: يجب أن نسعى إلى التواضع والخدمة بدلاً من السعي إلى السلطة والمكانة.
- المغفرة للآخرين: يجب أن نكون مستعدين لمغفرة الآخرين بغض النظر عن حجم الإساءة.
- المشاركة في حياة الكنيسة: يجب أن نشارك بفاعلية في حياة الكنيسة، ونسعى إلى الوحدة والمحبة مع المؤمنين الآخرين.
- الصلاة من أجل الآخرين: يجب أن نصلي من أجل الآخرين، وخاصة أولئك الذين يمرون بتجارب صعبة.
الأهمية التاريخية
الأصحاح الثامن عشر له أهمية تاريخية كبيرة في تطور الفكر المسيحي. لقد استخدمت الكنيسة تعليمات هذا الأصحاح لتوجيه ممارساتها في الانضباط الكنسي والتعامل مع الخلافات. كما أن مثل العبد الذي لم يرحم كان له تأثير كبير على فهم المسيحيين لأهمية المغفرة.
خاتمة
الأصحاح الثامن عشر من إنجيل متى يقدم لنا تعليمات قيمة حول كيفية عيش حياة مسيحية حقيقية في مجتمع المؤمنين. يشجعنا هذا الأصحاح على التواضع والمغفرة والانضباط والصلاة. من خلال تطبيق هذه التعليمات في حياتنا، يمكننا أن ننمو في علاقتنا مع الله ومع الآخرين، وأن نساهم في بناء كنيسة قوية ومحبة.