خلفية القضية
تعود جذور القضية إلى المناخ السياسي والاجتماعي المتوتر في يوغوسلافيا في الثمانينيات. كانت البلاد تعاني من أزمة اقتصادية متفاقمة، وتزايدت المطالبات بالإصلاح السياسي والديمقراطية. في سلوفينيا، كانت هناك حركة متنامية تدعو إلى مزيد من الاستقلالية عن بلغراد.
في هذا السياق، بدأت مجموعة من المثقفين والناشطين في التجمع حول مجلة “نوفا ريفيجا” (Nova Revija) التي كانت تنشر مقالات تنتقد النظام الشيوعي وتدعو إلى الديمقراطية. من بين هؤلاء الناشطين كان يانيز يانشا، وإيفان بورنشيك، وديفيد تاسيتش، وفرانس فيشنار.
ملابسات الاعتقال
في 31 مايو 1988، تم اعتقال يانيز يانشا، وهو صحفي وناشط سياسي بارز، بتهمة تسريب وثيقة عسكرية سرية. تبع ذلك اعتقال كل من إيفان بورنشيك، وديفيد تاسيتش، وفرانس فيشنار، الذين اتُهموا بالتورط في نفس القضية. عُرفت هذه المجموعة فيما بعد باسم “الأربعة”.
أثار الاعتقال موجة من الاحتجاجات والاستنكار في سلوفينيا وخارجها. اعتبر الكثيرون أن القضية ملفقة وأن الاعتقالات ذات دوافع سياسية تهدف إلى إسكات المعارضة وقمع الحريات.
المحاكمة
بدأت المحاكمة في يوليو 1988 أمام محكمة عسكرية في ليوبليانا. كانت الإجراءات سرية إلى حد كبير، ولم يُسمح للصحفيين والمراقبين المستقلين بحضور معظم الجلسات. اتُهم المتهمون الأربعة بـ “الإضرار بسمعة الجيش الشعبي اليوغوسلافي” و “الكشف عن أسرار عسكرية”.
اعتمدت القضية بشكل كبير على الوثيقة العسكرية السرية التي زُعم أن يانشا سربها. ومع ذلك، كانت هناك شكوك كبيرة حول صحة هذه الوثيقة وأصلها. ادعى الدفاع أن الوثيقة كانت مزورة وأنها جزء من مؤامرة لإدانة المتهمين.
على الرغم من الاحتجاجات والشكوك، أدانت المحكمة المتهمين الأربعة في أكتوبر 1988. حُكم على يانيز يانشا بالسجن لمدة 18 شهراً، وحُكم على إيفان بورنشيك بالسجن لمدة أربع سنوات، وحُكم على ديفيد تاسيتش وفرانس فيشنار بالسجن لمدة خمسة أشهر.
ردود الأفعال والاحتجاجات
أثارت الأحكام الصادرة بحق المتهمين موجة جديدة من الاحتجاجات والإدانات. نظمت مظاهرات حاشدة في ليوبليانا ومدن أخرى في سلوفينيا، وطالب المتظاهرون بالإفراج عن المتهمين وإجراء إصلاحات سياسية.
لعبت وسائل الإعلام المستقلة دوراً هاماً في تغطية القضية وتعبئة الرأي العام. كما انتقدت منظمات حقوق الإنسان الدولية المحاكمة واعتبرتها انتهاكاً لحرية التعبير والحق في محاكمة عادلة.
تأسيس لجنة الدفاع عن يانيز يانشا
في خضم هذه الأحداث، تأسست “لجنة الدفاع عن يانيز يانشا” (بالسلوفينية: Odbor za varstvo človekovih pravic) في عام 1988. كانت هذه اللجنة منظمة مدنية تهدف إلى الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات الأساسية، ولعبت دوراً حاسماً في الضغط من أجل إطلاق سراح المتهمين في قضية يابتز.
نظمت اللجنة العديد من الفعاليات والاحتجاجات، وجمعت التبرعات لتمويل الدفاع عن المتهمين، وقامت بحملات توعية للرأي العام حول القضية. ساهمت اللجنة بشكل كبير في تحويل قضية يابتز إلى رمز للنضال من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان في سلوفينيا.
الأهمية السياسية للقضية
تعتبر محاكمة يابتز نقطة تحول حاسمة في تاريخ سلوفينيا. ساهمت القضية في تعزيز الحركة الديمقراطية وتسريع عملية تفكك يوغوسلافيا. كشفت المحاكمة عن التناقضات والعيوب في النظام الشيوعي، وأظهرت تصميم الشعب السلوفيني على المطالبة بحقوقه وحرياته.
بعد سقوط النظام الشيوعي واستقلال سلوفينيا في عام 1991، تم تبرئة المتهمين في قضية يابتز وإعادة الاعتبار إليهم. أصبح يانيز يانشا فيما بعد رئيساً لوزراء سلوفينيا، ولعب دوراً بارزاً في السياسة السلوفينية.
تأثير القضية على الجيش الشعبي اليوغوسلافي
كان لمحاكمة يابتز تأثير كبير على صورة ومصداقية الجيش الشعبي اليوغوسلافي. اعتبر الكثيرون أن الجيش متورط في تلفيق القضية بهدف قمع المعارضة. أدت القضية إلى تآكل الثقة في الجيش وتسريع عملية تفككه.
علاوة على ذلك، كشفت المحاكمة عن الانقسامات العرقية والإقليمية داخل الجيش. كان هناك شعور متزايد بأن الجيش يمثل مصالح بلغراد وليس مصالح جميع شعوب يوغوسلافيا.
تأثير القضية على الحركة الديمقراطية في يوغوسلافيا
لم يقتصر تأثير محاكمة يابتز على سلوفينيا فقط، بل امتد إلى جميع أنحاء يوغوسلافيا. ألهمت القضية الناشطين الديمقراطيين في الجمهوريات الأخرى لمواصلة النضال من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان.
أظهرت القضية أن النظام الشيوعي كان يواجه تحديات كبيرة وأن هناك رغبة متزايدة في التغيير. ساهمت القضية في خلق مناخ سياسي واجتماعي موات لتفكك يوغوسلافيا في نهاية المطاف.
إعادة الاعتبار للمتهمين
بعد استقلال سلوفينيا، تم إلغاء الأحكام الصادرة بحق المتهمين في قضية يابتز وإعادة الاعتبار إليهم. تم الاعتراف بهم كأبطال للنضال من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان.
أصبحت قضية يابتز رمزاً للانتصار على الظلم والقمع، وذكرى لأهمية الدفاع عن الحريات الأساسية. لا تزال القضية تذكرنا بأهمية اليقظة والدفاع عن حقوق الإنسان في جميع الظروف.
الأرشيف
تم جمع العديد من الوثائق المتعلقة بمحاكمة يابتز في الأرشيف الوطني السلوفيني. يمكن للباحثين والمهتمين الاطلاع على هذه الوثائق لفهم القضية بشكل أفضل.
تشمل هذه الوثائق محاضر المحاكمة، والمراسلات بين المتهمين ومحاميهم، والتقارير الصحفية عن القضية، والوثائق المتعلقة بلجنة الدفاع عن يانيز يانشا.
خاتمة
محاكمة يابتز كانت محاكمة سياسية مهمة جرت في سلوفينيا الاشتراكية في عام 1988. اتُهم فيها أربعة أفراد بتسريب أسرار عسكرية، لكن القضية أثارت احتجاجات واسعة واعتُبرت محاولة لإسكات المعارضة. ساهمت المحاكمة في تعزيز الحركة الديمقراطية وتسريع عملية تفكك يوغوسلافيا، وأصبحت رمزاً للنضال من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان في سلوفينيا.