مقدمة
الإمام عبد الرحمن بن أحمد بن رجب (736-795 هـ/1335–1393 م)، المعروف بابن رجب الحنبلي وأيضًا بابن رجب، هو عالم دين وفقيه ومحدث ومؤرخ بارز من علماء المذهب الحنبلي. عاش في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) وترك إرثًا علميًا ضخمًا يشتمل على العديد من المؤلفات القيمة في مختلف العلوم الشرعية. يتميز ابن رجب بعمق فهمه للنصوص الشرعية ودقة استنباطاته، بالإضافة إلى زهده وورعه وتواضعه.
نسبه ونشأته
هو عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، أبو الفرج، زين الدين، المعروف بابن رجب الحنبلي. ولد في بغداد سنة 736 هـ (1335 م) لأسرة علمية عريقة. والده هو الشيخ أحمد بن رجب، كان عالمًا حنبليًا معروفًا، وكان له تأثير كبير في تربية ابنه وتوجيهه. انتقلت الأسرة إلى دمشق وهو صغير، وهناك نشأ وتلقى تعليمه الأولي في حلقات العلم المنتشرة في المساجد والمدارس.
شيوخه وتلاميذه
تلقى ابن رجب العلم على يد نخبة من العلماء والمشايخ البارزين في عصره، منهم:
- والده: الشيخ أحمد بن رجب، الذي يعتبر أول من وجهه نحو العلم.
- الإمام ابن القيم الجوزية: يعتبر من أبرز شيوخه وأكثرهم تأثيرًا فيه، حيث تتلمذ عليه ولازمه فترة طويلة، وتأثر بمنهجه في العلم والتربية.
- الحافظ العراقي: تلقى منه علم الحديث وروايته.
- الشيخ إبراهيم بن عبد الواحد بن عبد المؤمن المقدسي: سمع منه الحديث.
وقد تتلمذ عليه العديد من الطلاب الذين أصبحوا فيما بعد من العلماء البارزين، منهم:
- الحافظ زين الدين العراقي
- ابن حجي
- ابن قاضي شهبة
مكانته العلمية
تبوأ ابن رجب مكانة علمية رفيعة في عصره، واشتهر بعلمه الغزير وفهمه العميق للشريعة الإسلامية. كان مرجعًا للعلماء والفقهاء، وملاذًا للمستفتين. وقد أثنى عليه العديد من العلماء والمؤرخين، وشهدوا له بالفضل والعلم والتقوى. ومن أبرز ما يميز ابن رجب:
- التمكن من المذهب الحنبلي: كان من أبرز علماء المذهب الحنبلي، ومتقنًا لأصوله وفروعه، ومحررًا لمسائله.
- التبحر في علم الحديث: كان محدثًا حافظًا، واسع الاطلاع على الأحاديث النبوية الشريفة، وعالمًا بأسانيدها ورجالها.
- الفقه المقارن: كان له اطلاع واسع على مذاهب الفقهاء الآخرين، وقدرة على المقارنة بينها وترجيح الراجح منها.
- الزهد والورع: كان زاهدًا ورعًا، معرضًا عن الدنيا، مقبلاً على الآخرة.
- التواضع: كان متواضعًا في علمه، لا يأنف من سؤال المتعلمين، ولا يترفع عن مجالسة الفقراء والمساكين.
مؤلفاته
ترك ابن رجب إرثًا علميًا ضخمًا يشتمل على العديد من المؤلفات القيمة في مختلف العلوم الشرعية، ومن أبرزها:
- شرح صحيح البخاري: يعتبر من أهم شروحات صحيح البخاري، ويتميز بالتحقيق والتدقيق والتحرير، والجمع بين الفقه والحديث والأصول.
- شرح الأربعين النووية: من أشهر شروحات الأربعين النووية، ويتميز بالبيان والتوضيح والإسهاب، وذكر الفوائد واللطائف.
- جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم: من أهم كتبه وأكثرها شهرة، ويشتمل على شرح لخمسين حديثًا من جوامع الكلم، ويتميز بالعمق والتحليل والاستنباط.
- الذيل على طبقات الحنابلة: كتاب في تراجم علماء الحنابلة، وهو ذيل على كتاب “طبقات الحنابلة” للقاضي أبي يعلى.
- التخويف من النار والتعريف بحال أهلها: كتاب في وصف النار وأهوالها، وذكر أسباب دخولها.
- فتح الباري في شرح صحيح البخاري (غير مكتمل): شرح لم يكتمل لصحيح البخاري وصل فيه إلى كتاب الجنائز.
- قواعد في الفقه: كتاب في القواعد الفقهية وأصولها.
وغيرها الكثير من الرسائل والمختصرات والفتاوى التي تدل على غزارة علمه وسعة اطلاعه.
منهجه العلمي
تميز ابن رجب بمنهج علمي فريد يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويقوم على الأسس التالية:
- الاعتماد على الكتاب والسنة: كان يعتمد على الكتاب والسنة في جميع استدلالاته وأحكامه، ويحرص على فهمهما فهمًا صحيحًا بعيدًا عن التأويل والتحريف.
- الاستفادة من أقوال السلف الصالح: كان يستفيد من أقوال السلف الصالح وفهمهم للنصوص الشرعية، ويعتبرهم القدوة والمثل الأعلى.
- الجمع بين الفقه والحديث: كان يجمع بين الفقه والحديث في مؤلفاته، ويستدل بالأحاديث على المسائل الفقهية، ويشرح الأحاديث شرحًا فقهيًا.
- التحقيق والتدقيق: كان يتحرى الدقة والتحقيق في جميع ما يكتبه، ويتجنب النقل الأعمى والتقليد الأجوف.
- البيان والتوضيح: كان يحرص على البيان والتوضيح في مؤلفاته، ويستخدم الأسلوب السهل الميسر الذي يفهمه الجميع.
- التربية والتزكية: كان يولي اهتمامًا كبيرًا بالتربية والتزكية، ويدعو إلى إصلاح القلوب وتطهيرها من الآفات.
زهده وورعه
كان ابن رجب زاهدًا ورعًا، معرضًا عن الدنيا، مقبلاً على الآخرة. وكان يقتصد في مأكله ومشربه وملبسه، ويتصدق بماله على الفقراء والمساكين. وكان يكره الشهرة والرياء، ويفضل العزلة والبعد عن الناس. وقد تجلى زهده وورعه في أقواله وأفعاله ومؤلفاته.
وفاته
توفي ابن رجب في دمشق سنة 795 هـ (1393 م) عن عمر يناهز الستين عامًا. وقد رثاه العديد من العلماء والشعراء، وأثنوا على علمه وفضله وتقواه. ودفن بمقبرة باب الصغير بدمشق.
خاتمة
الإمام ابن رجب الحنبلي عالم جليل وفقيه متمكن ومحدث حافظ ومؤرخ بارز. ترك إرثًا علميًا ضخمًا يشتمل على العديد من المؤلفات القيمة في مختلف العلوم الشرعية. يتميز بعمق فهمه للنصوص الشرعية ودقة استنباطاته، بالإضافة إلى زهده وورعه وتواضعه. يعتبر ابن رجب من أبرز علماء المذهب الحنبلي وأكثرهم تأثيرًا في العصور المتأخرة. رحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.