مقدمة
الستيخيرا (باليونانية: Στιχηρόν، وتعني “مجموعة في أبيات”؛ الجمع: ستيخيرا؛ باليونانية: Στιχηρά) هي ترتيلة من نوع معين تُرتل خلال صلاة الغروب اليومية (Vespers) وصلاة السحر (Matins) في الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية والكنائس الكاثوليكية الشرقية التي تتبع الطقوس البيزنطية. تعتبر الستيخيرا جزءًا لا يتجزأ من التراث الليتورجي البيزنطي، وهي تعكس ثراء اللاهوت والروحانية الأرثوذكسية.
أصل الكلمة ومعناها
كلمة “ستيخيرا” مشتقة من الكلمة اليونانية “ستيكوس” (στίχος) التي تعني “بيت شعري” أو “آية”. يشير الاسم إلى أن هذه الترانيم تتكون من أبيات شعرية منظمة وفقًا لقواعد معينة. تُعرف الستيخيرا أيضًا بأنها “ترانيم ملحقة”، لأنها غالبًا ما تُلحق بمزامير أو قراءات كتابية أخرى خلال الخدمات الليتورجية.
أنواع الستيخيرا
تتنوع الستيخيرا في محتواها وأسلوبها ووظيفتها الليتورجية. يمكن تصنيفها إلى عدة أنواع رئيسية:
- ستيخيرا الغروب (Vespers Stichera): تُرتل هذه الترانيم خلال صلاة الغروب، وهي خدمة مسائية مهمة في الكنيسة الأرثوذكسية. غالبًا ما تتناول هذه الترانيم موضوعات مثل النور والظلمة، والخليقة والخلاص، والشكر والرجاء.
- ستيخيرا السحر (Matins Stichera): تُرتل هذه الترانيم خلال صلاة السحر، وهي خدمة صباحية مبكرة. تركز هذه الترانيم عادةً على موضوعات مثل القيامة، والتوبة، والتسبيح لله.
- ستيخيرا الأعياد (Festal Stichera): تُرتل هذه الترانيم خلال الأعياد الكبرى في السنة الليتورجية، مثل عيد الميلاد وعيد القيامة. تتميز هذه الترانيم بفرحها وبهجتها، وغالبًا ما تحتفل بأهمية الحدث الذي يتم تذكره.
- ستيخيرا القديسين (Stichera for Saints): تُرتل هذه الترانيم لتكريم القديسين في أيام تذكارهم. تروي هذه الترانيم حياة القديسين وأعمالهم الفاضلة، وتشجع المؤمنين على الاقتداء بهم.
- ستيخيرا الجناز (Funeral Stichera): تُرتل هذه الترانيم خلال خدمات الجنازة لتأبين المنتقلين. تعبر هذه الترانيم عن الحزن والأسى، ولكنها أيضًا تقدم الرجاء في القيامة والحياة الأبدية.
بنية الستيخيرا
تتكون الستيخيرا عادةً من عدة أبيات شعرية، يتم غناؤها على لحن معين. غالبًا ما تتبع الستيخيرا نمطًا معينًا من القافية والوزن، مما يضفي عليها جمالًا وإيقاعًا خاصًا. بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما تتضمن الستيخيرا إشارات إلى الكتاب المقدس أو إلى كتابات الآباء، مما يعمق معناها اللاهوتي.
عادة ما يتم ترتيل الستيخيرا من قبل مرتلين أو جوقة، ويمكن أن يرافقها عزف على آلات موسيقية، مثل الأورغ أو غيرها من الآلات التقليدية. يعتبر ترتيل الستيخيرا جزءًا هامًا من العبادة الأرثوذكسية، ويساهم في خلق جو من الروحانية والخشوع.
أهمية الستيخيرا في الليتورجيا الأرثوذكسية
تلعب الستيخيرا دورًا حيويًا في الليتورجيا الأرثوذكسية. فهي ليست مجرد ترانيم جميلة، بل هي تعبير عن الإيمان واللاهوت الأرثوذكسي. تساعد الستيخيرا المؤمنين على فهم أعمق للأحداث الليتورجية التي يحتفلون بها، وتلهمهم للعيش وفقًا لتعاليم الكنيسة.
من خلال ترتيل الستيخيرا، يشارك المؤمنون في صلاة الكنيسة الجامعة، ويتحدون مع القديسين والملائكة في التسبيح لله. كما تساعد الستيخيرا على تنمية الروحانية والتقوى، وتقوية العلاقة بين المؤمن والله.
بالإضافة إلى ذلك، تعتبر الستيخيرا وسيلة هامة لنقل التراث اللاهوتي والروحي للكنيسة الأرثوذكسية. فقد تم الحفاظ على العديد من الترانيم القديمة عبر الأجيال، وهي تحمل في طياتها حكمة وخبرة الآباء والمعلمين الروحيين.
أشهر مؤلفي الستيخيرا
على مر القرون، قام العديد من المؤلفين الموهوبين بتأليف الستيخيرا، وتركوا بصماتهم على التراث الليتورجي البيزنطي. من بين أشهر هؤلاء المؤلفين:
- القديس رومانوس المرنم (Saint Romanos the Melodist): يعتبر من أعظم مؤلفي الترانيم في الكنيسة البيزنطية. عاش في القرن السادس الميلادي، وترك لنا مجموعة كبيرة من الترانيم الرائعة، بما في ذلك العديد من الستيخيرا.
- القديس يوحنا الدمشقي (Saint John of Damascus): كان راهبًا ولاهوتيًا وشاعرًا من دمشق عاش في القرن الثامن الميلادي. يعتبر من أهم الشخصيات في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية، وله إسهامات كبيرة في تطوير الليتورجيا والترانيم.
- القديسة كاسيا (Saint Kassia): كانت شاعرة وملحنة بيزنطية عاشت في القرن التاسع الميلادي. تعتبر من أوائل المؤلفات الموسيقيات في التاريخ، وتركت لنا عددًا من الترانيم الجميلة والمؤثرة.
الستيخيرا في الموسيقى البيزنطية
تعتبر الستيخيرا جزءًا لا يتجزأ من الموسيقى البيزنطية، وهي نوع من الموسيقى الكنسية التقليدية التي نشأت في الإمبراطورية البيزنطية. تتميز الموسيقى البيزنطية بجمالها وتعقيدها، وتعتبر وسيلة قوية للتعبير عن الإيمان والروحانية.
تعتمد الموسيقى البيزنطية على نظام معين من المقامات والإيقاعات، وتستخدم مجموعة متنوعة من الألحان والزخارف. يتم ترتيل الستيخيرا عادةً بأسلوب معين من الترتيل يسمى “إيخوس” (ἦχος)، وهو نظام من ثمانية أنماط لحنية تستخدم في الموسيقى البيزنطية.
تعتبر دراسة الموسيقى البيزنطية وترتيل الستيخيرا مهارة تتطلب تدريبًا وجهدًا كبيرين. هناك العديد من المدارس والمعاهد المتخصصة في تعليم الموسيقى البيزنطية، وتخريج المرتلين والقادة الجوقيين المؤهلين.
الستيخيرا في الثقافة الحديثة
على الرغم من أن الستيخيرا ترتبط بشكل وثيق بالعبادة الأرثوذكسية، إلا أنها بدأت تجد طريقها إلى الثقافة الحديثة. فقد تم تسجيل العديد من الترانيم على أقراص مدمجة وأشرطة فيديو، وهي متاحة الآن على الإنترنت.
بالإضافة إلى ذلك، قام بعض الفنانين المعاصرين بتضمين الستيخيرا في أعمالهم الموسيقية، مما ساهم في تعريف جمهور أوسع بهذا النوع من الترانيم الجميلة. كما تم استخدام الستيخيرا في الأفلام والبرامج التلفزيونية، مما زاد من انتشارها وشعبيتها.
يعكس هذا الاهتمام المتزايد بالستيخيرا تقديرًا للتراث الروحي والثقافي الغني للكنيسة الأرثوذكسية، ورغبة في استكشاف جمال وعمق الموسيقى البيزنطية.
خاتمة
الستيخيرا هي ترانيم فريدة ومميزة تلعب دورًا هامًا في الليتورجيا الأرثوذكسية. إنها تعبير عن الإيمان واللاهوت الأرثوذكسي، وتساعد المؤمنين على فهم أعمق للأحداث الليتورجية التي يحتفلون بها. من خلال ترتيل الستيخيرا، يشارك المؤمنون في صلاة الكنيسة الجامعة، ويتحدون مع القديسين والملائكة في التسبيح لله. سواء تم ترتيلها في الكنيسة أو الاستماع إليها في المنزل، تظل الستيخيرا مصدر إلهام وتقوية روحية للمؤمنين في جميع أنحاء العالم.