نشأة هيو تريسي وحياته المبكرة
ولد هيو تريسي في عام 1903 في ديفونشاير، إنجلترا. نشأ في بيئة ريفية، مما أتاح له فرصة التعرف على الموسيقى الشعبية الإنجليزية التقليدية. هاجر إلى روديسيا الجنوبية (زيمبابوي حاليًا) في عام 1921 للعمل في مزرعة شقيقه. خلال فترة إقامته في أفريقيا، اكتشف شغفه بالموسيقى الأفريقية المحلية، وبدأ في تعلم لغاتها وتقاليدها الموسيقية.
بداية رحلة التوثيق الموسيقي
لم يكن تريسي مدربًا رسميًا في علم الموسيقى، لكن شغفه بالموسيقى الأفريقية دفعه إلى تطوير مهاراته بنفسه. بدأ في تسجيل الموسيقى باستخدام معدات بدائية، وسافر عبر مناطق نائية لجمع التسجيلات من مختلف القبائل والمجتمعات. كان تريسي يعتقد أن الموسيقى الأفريقية مهددة بالاندثار بسبب تأثير الثقافة الغربية والتغيرات الاجتماعية، لذلك شعر بضرورة ملحة لتوثيقها وحفظها للأجيال القادمة.
مؤسسة الموسيقى الأفريقية الدولية
في عام 1954، أسس تريسي مؤسسة الموسيقى الأفريقية الدولية (International Library of African Music – ILAM) في روديسيا الجنوبية. أصبحت هذه المؤسسة مركزًا رائدًا للبحث والتوثيق في مجال الموسيقى الأفريقية. ضمت المؤسسة أرشيفًا ضخمًا من التسجيلات الصوتية والملاحظات الميدانية والصور الفوتوغرافية، بالإضافة إلى مكتبة متخصصة في الموسيقى الأفريقية. لعبت المؤسسة دورًا حاسمًا في دعم الباحثين والطلاب والفنانين المهتمين بالموسيقى الأفريقية.
منهجية هيو تريسي في التوثيق
تميزت منهجية هيو تريسي في التوثيق بالدقة والشمولية. لم يكتفِ بتسجيل الموسيقى فقط، بل سعى إلى فهم السياق الثقافي والاجتماعي الذي أنتج هذه الموسيقى. كان يحرص على تسجيل أسماء الفنانين وأصولهم القبلية ومعلومات عن المناسبة التي تم فيها عزف الموسيقى. كما كان يهتم بتوثيق الآلات الموسيقية المستخدمة في العزف ووصف تقنيات العزف المختلفة.
بالإضافة إلى ذلك، كان تريسي مهتمًا بتحليل الموسيقى من الناحية النظرية، فقام بتطوير نظام خاص لتدوين الموسيقى الأفريقية، بهدف تسهيل دراستها وتحليلها من قبل الباحثين. كان تريسي يؤمن بأهمية إتاحة التسجيلات الموسيقية للجمهور، لذلك قام بنشر العديد من الألبومات والمختارات الموسيقية التي تضمنت أفضل التسجيلات التي جمعها.
أهمية عمل هيو تريسي وتأثيره
يعتبر عمل هيو تريسي ذا أهمية بالغة في تاريخ دراسة الموسيقى الأفريقية. فقد ساهم في توثيق وحفظ تراث موسيقي غني كان مهددًا بالضياع. كما ساعد في التعريف بالموسيقى الأفريقية على نطاق واسع، وزيادة الوعي بأهميتها الثقافية والفنية.
ألهم عمل تريسي العديد من الباحثين والفنانين الموسيقيين، وساهم في تطوير مجال علم الموسيقى العرقية. لا تزال مؤسسة الموسيقى الأفريقية الدولية التي أسسها تريسي تلعب دورًا هامًا في دعم البحث والتوثيق في مجال الموسيقى الأفريقية.
انتقادات لعمل هيو تريسي
على الرغم من الإسهامات الكبيرة التي قدمها هيو تريسي في مجال توثيق الموسيقى الأفريقية، إلا أن عمله لم يخلُ من الانتقادات. يرى بعض الباحثين أن تريسي كان يركز بشكل كبير على الموسيقى التقليدية، ويتجاهل الموسيقى الحديثة التي تعكس التغيرات الاجتماعية والثقافية في أفريقيا. كما انتقد البعض الآخر منهجه في التوثيق، معتبرين أنه كان يميل إلى تبسيط الموسيقى الأفريقية وتقديمها بصورة نمطية.
بالإضافة إلى ذلك، تعرض تريسي لانتقادات بسبب مواقفه السياسية في فترة الاستعمار والتمييز العنصري في جنوب أفريقيا. فقد اتُهم بالتغاضي عن الظلم الذي كان يتعرض له الأفارقة، والتركيز فقط على الجوانب الثقافية للمجتمع.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار الأهمية التاريخية لعمل هيو تريسي ودوره الرائد في توثيق الموسيقى الأفريقية. وعلى الرغم من الانتقادات الموجهة إليه، إلا أنه يظل شخصية بارزة في تاريخ دراسة الموسيقى الأفريقية، وأحد الرواد الذين ساهموا في فهم أعمق للثقافة الأفريقية.
أبرز تسجيلات هيو تريسي
قام هيو تريسي بتسجيل آلاف الساعات من الموسيقى الأفريقية خلال مسيرته المهنية. ومن بين أبرز تسجيلاته:
- موسيقى شعب الشونا في روديسيا الجنوبية: مجموعة من التسجيلات التي توثق الموسيقى التقليدية لشعب الشونا، أكبر مجموعة عرقية في زيمبابوي.
- موسيقى شعب الزولو في جنوب أفريقيا: مجموعة من التسجيلات التي توثق الموسيقى التقليدية لشعب الزولو، أكبر مجموعة عرقية في جنوب أفريقيا.
- موسيقى شعب البانتو في شرق أفريقيا: مجموعة من التسجيلات التي توثق الموسيقى التقليدية لشعوب البانتو في شرق أفريقيا، بما في ذلك كينيا وتنزانيا وأوغندا.
مؤلفات هيو تريسي
بالإضافة إلى تسجيلاته الموسيقية، قام هيو تريسي بتأليف العديد من الكتب والمقالات حول الموسيقى الأفريقية. ومن بين أبرز مؤلفاته:
- African Music: كتاب شامل يقدم نظرة عامة على الموسيقى الأفريقية التقليدية.
- Chopi Musicians: Their Music, Poetry, and Instruments: دراسة متعمقة لموسيقى شعب الشوبي في موزمبيق.
- The Mbira Music of Rhodesia: دراسة متخصصة لموسيقى آلة المبيرا في زيمبابوي.
الآلات الموسيقية الأفريقية التي وثقها تريسي
وثق تريسي العديد من الآلات الموسيقية الأفريقية خلال رحلاته، ومن بينها:
- المبيرا: آلة موسيقية أفريقية تقليدية تتكون من مجموعة من الصفائح المعدنية المثبتة على لوح خشبي.
- البالافون: آلة موسيقية أفريقية تشبه الزيلوفون.
- الكورا: آلة موسيقية أفريقية تشبه القيثارة.
- الطبول الأفريقية: مجموعة متنوعة من الطبول المستخدمة في مختلف أنحاء أفريقيا.
تكريم هيو تريسي
حصل هيو تريسي على العديد من الجوائز والأوسمة تقديرًا لعمله في مجال الموسيقى الأفريقية. ومن بين هذه الجوائز:
- وسام الإمبراطورية البريطانية (OBE).
- درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة رودس.
تراث هيو تريسي
لا يزال تراث هيو تريسي حيًا حتى اليوم. تستمر مؤسسة الموسيقى الأفريقية الدولية في عملها في حفظ وتوثيق الموسيقى الأفريقية. كما أن تسجيلات تريسي لا تزال متاحة للجمهور، وتستخدم في البحث والتعليم. لقد ساهم هيو تريسي بشكل كبير في فهمنا وتقديرنا للموسيقى الأفريقية، وسيظل اسمه مرتبطًا بتاريخ هذا الفن للأبد.
خاتمة
كان هيو تريسي شخصية محورية في دراسة وتوثيق الموسيقى الأفريقية. من خلال عمله الدؤوب وشغفه بالموسيقى، تمكن من جمع وحفظ تراث موسيقي غني كان مهددًا بالاندثار. على الرغم من الانتقادات التي وجهت إليه، إلا أن إسهاماته في فهم الثقافة الأفريقية وتعزيزها لا يمكن إنكارها. يبقى تريسي مرجعًا أساسيًا للباحثين والمهتمين بالموسيقى الأفريقية، وتستمر مؤسسته في نشر المعرفة والحفاظ على هذا التراث الثقافي القيم.