<![CDATA[
نشأتها وبداياتها الفنية
ولدت روث دريبر في مدينة نيويورك لعائلة ثرية ومرموقة. كان والدها، ويليام هنري دريبر، طبيبًا بارزًا، وكانت والدتها، روث دانا، تنتمي إلى عائلة دانا العريقة. نشأت روث في بيئة ثقافية غنية، حيث تلقت تعليمًا جيدًا واختلطت بنخبة المجتمع. منذ صغرها، أظهرت اهتمامًا بالفنون، وخاصة المسرح. كانت تحب تقليد الشخصيات التي تراها في الحياة اليومية، وكانت موهبتها الفطرية واضحة للعيان.
على الرغم من نشأتها المرفهة، لم تسعَ دريبر في البداية إلى احتراف التمثيل. بدلاً من ذلك، عملت في مجال العمل الاجتماعي، حيث قدمت المساعدة للمهاجرين الجدد. ومع ذلك، لم تستطع دريبر مقاومة شغفها بالتمثيل. بدأت بتقديم عروض خاصة لأصدقائها وعائلتها، وسرعان ما اكتسبت شهرة واسعة في الأوساط الاجتماعية. شجعها المقربون منها على تطوير موهبتها والانطلاق بها إلى جمهور أوسع.
بدأت دريبر مسيرتها الفنية الاحترافية في عام 1916، حيث قدمت عروضًا في المنازل الخاصة والحفلات الخيرية. سرعان ما لفتت انتباه النقاد والجمهور على حد سواء. تميزت عروضها بالذكاء والعمق والقدرة على تجسيد الشخصيات المختلفة ببراعة. لم تكن دريبر تعتمد على الأزياء أو الديكورات المعقدة، بل كانت تركز على قوة الأداء الصوتي والجسدي لخلق الشخصية وإيصال مشاعرها إلى الجمهور.
فن “الديزوز” (Diseuse)
تخصصت روث دريبر في فن “الديزوز”، وهو مصطلح فرنسي يشير إلى المؤدية التي تقدم عروضًا تمثيلية منفردة تعتمد على المونولوجات وتجسيد الشخصيات المختلفة. يختلف هذا الفن عن التمثيل التقليدي، حيث لا يعتمد المؤدي على الحوارات مع ممثلين آخرين أو على الديكورات والأزياء المعقدة. بدلاً من ذلك، يركز المؤدي على قوة صوته وحركاته وإيماءاته لخلق الشخصية وإيصال مشاعرها إلى الجمهور.
كانت دريبر تعتبر رائدة في هذا الفن، حيث طورت أسلوبًا فريدًا ومميزًا. كانت قادرة على تجسيد مجموعة واسعة من الشخصيات، من السيدات الأرستقراطيات إلى الخادمات البسيطات، ومن الأطفال الصغار إلى كبار السن. كانت تستخدم لهجات مختلفة وتعابير وجه متنوعة لإضفاء المصداقية على شخصياتها. لم تكن مجرد مقلدة، بل كانت فنانة تخلق الشخصية من الداخل، وتمنحها حياة خاصة.
من أشهر شخصيات دريبر:
- “الإيطالية في دار الأوبرا” (The Italian Lesson): مونولوج يجسد امرأة إيطالية ثرية تحاول تعلم اللغة الإنجليزية.
- “ثلاثة أجيال في الكنيسة” (Three Generations in a Church): مونولوج يجسد ثلاث نساء من ثلاثة أجيال مختلفة يحضرن قداسًا في الكنيسة.
- “طبيب ومريض” (Doctors and Diets): مونولوج يجسد امرأة مهووسة بالصحة والرشاقة تتحدث إلى طبيبها عن حميتها الغذائية.
- “في معرض فني” (At an Art Gallery): مونولوج يجسد امرأة تحاول فهم الفن الحديث.
تميزت عروض دريبر بالواقعية والفكاهة والقدرة على إبراز الجوانب الإنسانية في شخصياتها. كانت قادرة على جعل الجمهور يضحك ويبكي ويتعاطف مع شخصياتها. لقد كانت فنانة قادرة على خلق عوالم كاملة بشخصية واحدة.
شهرة عالمية وتأثير
حققت روث دريبر شهرة عالمية واسعة النطاق. قدمت عروضًا في جميع أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا. حظيت عروضها بإقبال كبير من الجمهور والنقاد على حد سواء. أشاد النقاد بقدرتها على تجسيد الشخصيات المختلفة ببراعة وإضفاء المصداقية عليها. وصفها البعض بأنها “عبقرية” و “فنانة فريدة من نوعها”.
لم تقتصر شهرة دريبر على المسرح، بل امتدت أيضًا إلى الإذاعة والتسجيلات الصوتية. سجلت العديد من عروضها على أقراص فونوغراف، والتي حققت مبيعات كبيرة. ظهرت أيضًا في العديد من البرامج الإذاعية، حيث قدمت مقتطفات من عروضها المسرحية.
تركت روث دريبر بصمة واضحة في تاريخ المسرح الأمريكي والعالمي. ألهمت العديد من الفنانين الذين سعوا إلى تطوير فن الأداء الفردي. تعتبر دريبر رائدة في هذا الفن، وقد ساهمت في رفع مكانته وتقديره. لا تزال عروضها تدرس في كليات الفنون المسرحية حتى اليوم، وتعتبر مصدر إلهام للعديد من الممثلين والمؤدين.
من بين الفنانين الذين تأثروا بدريبر:
- آنا ديفيير سميث (Anna Deavere Smith): ممثلة وكاتبة مسرحية أمريكية اشتهرت بتقديم عروض تمثيلية منفردة تتناول قضايا اجتماعية وسياسية هامة.
- للي توملين (Lily Tomlin): ممثلة وكوميدية أمريكية اشتهرت بتجسيد شخصيات مختلفة في عروضها الكوميدية.
- وووبي غولدبرغ (Whoopi Goldberg): ممثلة وكوميدية أمريكية اشتهرت بتقديم عروض تمثيلية منفردة تتناول قضايا اجتماعية وثقافية مختلفة.
حياتها الشخصية ووفاتها
لم تتزوج روث دريبر أبدًا. كرست حياتها للفن والتمثيل. كانت معروفة بكرمها وحبها للخير. قدمت المساعدة للعديد من الفنانين الشباب، وساهمت في دعم العديد من المؤسسات الخيرية.
توفيت روث دريبر في 30 ديسمبر 1956 في مدينة نيويورك عن عمر يناهز 72 عامًا. تركت وراءها إرثًا فنيًا غنيًا ومجموعة كبيرة من العروض المسجلة التي لا تزال تلهم الفنانين والجمهور حتى اليوم.
خاتمة
روث دريبر كانت فنانة استثنائية، تركت بصمة لا تُمحى في عالم المسرح. من خلال فنها الفريد “الديزوز”، استطاعت أن تخلق عوالم كاملة بشخصياتها المتنوعة، مستخدمة صوتها وجسدها ببراعة فائقة. لقد كانت رائدة في فن الأداء الفردي، وأثرت في أجيال من الفنانين. ستبقى روث دريبر رمزًا للإبداع والابتكار في عالم المسرح.