أصل المصطلح وتطوره
صاغ مصطلح “السر المسيحاني” عالم اللاهوت الألماني فيلهلم فيريد في كتابه “السر المسيحاني في الأناجيل” (Das Messiasgeheimnis in den Evangelien) الذي نُشر عام 1901. يرى فيريد أن يسوع التاريخي لم يدعِ أنه المسيح، وأن هذه الفكرة تطورت لاحقاً في الكنيسة الأولى. ووفقاً لفيريد، فإن إنجيل مرقس يعكس هذا التطور من خلال تصوير يسوع وهو يحاول إخفاء هويته المسيحانية.
على الرغم من أن نظرية فيريد قد تعرضت لانتقادات واسعة، إلا أن مصطلح “السر المسيحاني” بقي مستخدماً على نطاق واسع في الدراسات الإنجيلية لوصف هذا الموضوع المتكرر في إنجيل مرقس.
أمثلة على السر المسيحاني في إنجيل مرقس
تظهر عدة أمثلة على السر المسيحاني في إنجيل مرقس، بما في ذلك:
- شفاء المرضى: غالباً ما يأمر يسوع الأشخاص الذين شفاهم بعدم إخبار أحد بما حدث. على سبيل المثال، بعد شفاء الأبرص في مرقس 1: 40-45، أمره يسوع بشدة أن لا يخبر أحداً، لكن الأبرص لم يمتثل وانتشر الخبر على نطاق واسع.
- إخراج الشياطين: غالباً ما تأتي الشياطين معلنة هوية يسوع، لكنه يسكتهم ويمنعهم من الكلام. في مرقس 1: 34، نقرأ: “ولم يدع الشياطين يتكلمون، لأنهم عرفوه”.
- اعتراف بطرس: بعد أن اعترف بطرس بأن يسوع هو المسيح، أمره يسوع بشدة أن لا يخبر أحداً عنه (مرقس 8: 27-30).
- تجلي يسوع: بعد أن تجلى يسوع أمام بطرس ويعقوب ويوحنا، أمرهم أن لا يخبروا أحداً بما رأوه حتى يقوم ابن الإنسان من الأموات (مرقس 9: 2-9).
تفسيرات السر المسيحاني
هناك العديد من التفسيرات المقترحة للسر المسيحاني في إنجيل مرقس، ومن أبرزها:
- التفسير الأدبي: يرى هذا التفسير أن السر المسيحاني هو أسلوب أدبي يستخدمه مرقس لخلق التشويق والإثارة في القصة. من خلال إبقاء هوية يسوع مخفية، يجذب مرقس انتباه القارئ ويدفعه إلى التفكير في معنى شخصية يسوع ورسالته.
- التفسير اللاهوتي: يرى هذا التفسير أن السر المسيحاني يعكس فهم مرقس الخاص لطبيعة المسيحانية. يعتقد مرقس أن يسوع لم يكن مجرد ملك أو قائد سياسي، بل كان أيضاً ابن الله المتألم الذي يجب أن يموت على الصليب من أجل خلاص البشرية. وبالتالي، فإن السر المسيحاني يهدف إلى منع الناس من فهم المسيحانية بطريقة خاطئة أو سطحية.
- التفسير التاريخي: يرى هذا التفسير أن السر المسيحاني يعكس الوضع التاريخي للكنيسة الأولى. في ذلك الوقت، كانت هناك معارضة شديدة للمسيحية من قبل السلطات الرومانية واليهودية. وبالتالي، فإن السر المسيحاني كان يهدف إلى حماية يسوع وأتباعه من الاضطهاد.
- التفسير النفسي: يرى هذا التفسير أن السر المسيحاني يعكس صراع يسوع الداخلي مع هويته ورسالته. كان يسوع يعلم أنه المسيح، لكنه كان أيضاً يعلم أن هذا اللقب يحمل معه توقعات ومفاهيم خاطئة. وبالتالي، فإن السر المسيحاني كان وسيلة ليسوع للسيطرة على الكشف عن هويته ولتحديد معنى مسيحيته بنفسه.
انتقادات لمفهوم السر المسيحاني
على الرغم من أن مفهوم السر المسيحاني قد حظي بشعبية واسعة في الدراسات الإنجيلية، إلا أنه تعرض أيضاً لانتقادات من قبل بعض العلماء. يرى هؤلاء النقاد أن السر المسيحاني مبالغ فيه، وأن هناك تفسيرات أخرى محتملة للأوامر التي أصدرها يسوع بالصمت.
على سبيل المثال، يرى بعض العلماء أن يسوع كان يأمر الناس بالصمت لأنه لم يكن يريد أن يجذب انتباه السلطات الرومانية أو اليهودية قبل الأوان. ويرى آخرون أن يسوع كان يأمر الناس بالصمت لأنه كان يريد أن يركز على التعليم والتبشير بدلاً من الشفاء وإجراء المعجزات.
بالإضافة إلى ذلك، يرى بعض العلماء أن مفهوم السر المسيحاني يعتمد على قراءة انتقائية لإنجيل مرقس. يشير هؤلاء العلماء إلى أن هناك أيضاً مقاطع في إنجيل مرقس حيث يكشف يسوع عن هويته المسيحانية أو يسمح للآخرين بالكشف عنها.
السر المسيحاني في الأناجيل الأخرى
على الرغم من أن السر المسيحاني هو سمة مميزة لإنجيل مرقس، إلا أنه يظهر أيضاً في الأناجيل الأخرى، وإن كان بدرجة أقل. على سبيل المثال، في إنجيل متى، يأمر يسوع الشياطين بالصمت عندما يعترفون به (متى 12: 16). وفي إنجيل لوقا، يأمر يسوع الأشخاص الذين شفاهم بعدم إخبار أحد بما حدث (لوقا 8: 56).
ومع ذلك، فإن السر المسيحاني ليس بنفس الأهمية في الأناجيل الأخرى كما هو في إنجيل مرقس. في الواقع، يرى بعض العلماء أن متى ولوقا قد خففا من حدة السر المسيحاني في إنجيل مرقس لأنهما لم يعتقدا أنه ضروري أو مناسب لجمهورهما.
أهمية السر المسيحاني
بغض النظر عن التفسير الصحيح للسر المسيحاني، فإنه يلعب دوراً مهماً في إنجيل مرقس. إنه يساعد على تشكيل صورة يسوع كشخصية معقدة وغامضة، ويدعو القارئ إلى التفكير بعمق في معنى شخصية يسوع ورسالته. كما أنه يسلط الضوء على التحديات التي واجهها يسوع وأتباعه في الكنيسة الأولى.
بالإضافة إلى ذلك، فإن السر المسيحاني يثير أسئلة مهمة حول طبيعة الإيمان المسيحي. هل يجب أن نؤمن بيسوع بناءً على المعجزات التي أجرأها أم بناءً على تعاليمه وأعماله؟ هل يجب أن نعلن إيماننا بيسوع علانية أم يجب أن نحتفظ به لأنفسنا؟ هذه هي الأسئلة التي يدعونا إنجيل مرقس إلى التفكير فيها.
خاتمة
السر المسيحاني هو مفهوم أساسي في إنجيل مرقس يصف كيف يظهر يسوع وهو يأمر أتباعه بعدم الكشف عن هويته المسيحانية أو قوته. وقد قدم العلماء العديد من التفسيرات لهذا السر، بما في ذلك التفسيرات الأدبية واللاهوتية والتاريخية والنفسية. على الرغم من وجود انتقادات لهذا المفهوم، إلا أنه لا يزال يلعب دوراً مهماً في فهم إنجيل مرقس وصورة يسوع التي يقدمها. إنه يثير أسئلة مهمة حول طبيعة الإيمان المسيحي والتحديات التي واجهها يسوع وأتباعه في الكنيسة الأولى.