التركيز على سانتينيكيتان وفيسفا بهاراتي
بعد أن ورث رابندراناث طاغور ملكية سانتينيكيتان من والده، ديبندراناث طاغور، قام بتحويلها إلى مركز للتعليم التجريبي. في عام 1901، أسس مدرسة “براهماتشارياشرم”، والتي أصبحت فيما بعد نواة جامعة فيسفا بهاراتي. كان هدف طاغور هو إنشاء مؤسسة تعليمية فريدة من نوعها، تجمع بين أفضل عناصر الثقافة الشرقية والغربية، وتركز على التنمية الشاملة للطالب، ليس فقط من الناحية الأكاديمية، بل أيضًا من الناحية الفنية والإبداعية والروحية.
ركز طاغور على توفير بيئة تعليمية طبيعية ومحفزة، حيث يتم تشجيع الطلاب على التفكير النقدي والتعبير عن أنفسهم بحرية. كان التعليم في سانتينيكيتان يتميز بالبساطة والبعد عن التقاليد البالية، مع التركيز على أهمية العلاقة الوثيقة بين المعلم والطالب. كما أولى طاغور اهتمامًا خاصًا بتعليم الفنون والموسيقى والرقص، إيمانًا منه بأنها تلعب دورًا حيويًا في تنمية شخصية الطالب.
لم تقتصر رؤية طاغور لسانتينيكيتان على كونها مؤسسة تعليمية، بل كانت بمثابة مجتمع متكامل، يسعى إلى تحقيق التنمية المستدامة والوئام الاجتماعي. شجع طاغور الطلاب والمعلمين على المشاركة في الأنشطة الاجتماعية والخدمة المجتمعية، إيمانًا منه بأهمية المساهمة في تحسين حياة الآخرين.
النشاط الأدبي والشعري
لم يتوقف النشاط الأدبي والشعري لطاغور خلال سنواته الوسطى، بل ازداد غزارة وتنوعًا. كتب طاغور في هذه الفترة العديد من القصائد والمسرحيات والروايات والمقالات، التي تعبر عن أفكاره ورؤيته حول الحياة والمجتمع والإنسان. من بين أشهر أعماله في هذه الفترة:
- جيتانجالي (Gitanjali): مجموعة من القصائد الدينية والفلسفية التي نال عنها جائزة نوبل في الأدب عام 1913.
- الغرفة والكون (The Home and the World): رواية تتناول قضايا الهوية الوطنية والصراع بين التقاليد والحداثة.
- الملك الظلام (The King of the Dark Chamber): مسرحية رمزية تستكشف طبيعة الحقيقة والروحانية.
- حديقة البستاني (The Gardener): مجموعة من القصائد الغنائية التي تعبر عن الحب والجمال والطبيعة.
تميزت كتابات طاغور في هذه الفترة بالعمق الفلسفي والبعد الإنساني، بالإضافة إلى استخدام اللغة الشعرية الجميلة والصور البلاغية المبتكرة. كان طاغور يهدف من خلال كتاباته إلى إلهام القراء وتشجيعهم على التفكير النقدي والبحث عن الحقيقة.
الأسفار العالمية والتأثير الدولي
شهدت السنوات الوسطى من حياة طاغور أسفارًا مكثفة في أنحاء العالم، حيث زار العديد من البلدان في أوروبا وأمريكا وآسيا. كان الهدف من هذه الأسفار هو نشر أفكاره ورؤيته حول الثقافة والتعليم والسلام، بالإضافة إلى جمع التبرعات لجامعة فيسفا بهاراتي.
خلال أسفاره، ألقى طاغور العديد من المحاضرات والخطابات أمام جماهير متنوعة، وتحدث عن أهمية التسامح والتفاهم بين الثقافات، وضرورة نبذ العنف والتعصب. لاقت أفكار طاغور ترحيبًا واسعًا في أنحاء العالم، وأصبح شخصية عالمية تحظى بالاحترام والتقدير.
ساهمت أسفار طاغور أيضًا في تعزيز مكانة الأدب الهندي على الساحة العالمية، وفتح الباب أمام الكتاب والمفكرين الهنود الآخرين للتعبير عن أنفسهم والوصول إلى جمهور أوسع. كان طاغور بمثابة سفير للثقافة الهندية، وعمل على تعريف العالم بثرائها وتنوعها.
كما كان لزيارات طاغور تأثير كبير على العديد من المفكرين والكتاب والفنانين في أنحاء العالم، الذين استلهموا من أفكاره ورؤيته. ألهمت أفكاره حركات السلام والعدالة الاجتماعية في العديد من البلدان، وساهمت في تعزيز الحوار بين الثقافات والحضارات.
المواقف السياسية والاجتماعية
لم يكن طاغور بمنأى عن الأحداث السياسية والاجتماعية التي شهدتها الهند والعالم خلال سنواته الوسطى. اتخذ طاغور مواقف واضحة تجاه العديد من القضايا، وعبر عن آرائه بصراحة وشجاعة. عارض طاغور الاستعمار البريطاني للهند، ودعا إلى تحقيق الاستقلال الذاتي، لكنه في الوقت نفسه رفض العنف والإرهاب، ودعا إلى اتباع أساليب سلمية في النضال.
كما انتقد طاغور النظام الطبقي في الهند، ودعا إلى تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية. كان طاغور يؤمن بأن التعليم هو المفتاح لتحقيق التقدم والازدهار، ودعا إلى توفير فرص التعليم للجميع، بغض النظر عن الطبقة أو الجنس أو الدين.
عارض طاغور أيضًا التعصب الديني والتطرف، ودعا إلى التسامح والتفاهم بين الأديان. كان طاغور يؤمن بأن جميع الأديان تحمل في جوهرها رسالة حب وسلام، وأن الاختلافات بينها لا ينبغي أن تكون سببًا للنزاع والصراع.
تأثير الحرب العالمية الأولى
كانت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) بمثابة صدمة كبيرة لطاغور، الذي كان يؤمن بالسلام والتفاهم بين الأمم. رأى طاغور في الحرب دليلًا على فشل الحضارة الغربية، وعبر عن خيبة أمله في القيم الأوروبية التي كان يعتقد أنها أساس التقدم والازدهار.
بعد الحرب، أصبح طاغور أكثر تشاؤمًا بشأن مستقبل البشرية، وعبر عن قلقه من تنامي النزعات القومية والعسكرية في العالم. دعا طاغور إلى إنشاء نظام عالمي جديد، يقوم على التعاون والتكامل بين الأمم، ويحترم حقوق الإنسان والبيئة.
خاتمة
تعتبر السنوات الوسطى من حياة رابندراناث طاغور فترة حافلة بالإنجازات والتحديات. شهدت هذه الفترة تركيزًا على تطوير سانتينيكيتان وجامعة فيسفا بهاراتي، واستمرارًا للنشاط الأدبي والشعري الغزير، بالإضافة إلى أسفار عالمية ساهمت في نشر أفكاره ورؤيته. اتخذ طاغور مواقف واضحة تجاه القضايا السياسية والاجتماعية، وعبر عن آرائه بصراحة وشجاعة. تركت هذه الفترة بصمة واضحة على فكر طاغور وإرثه الثقافي.