حياته المبكرة وتعليمه
ولد أندرو بيكرينغ في عام 1948. تلقى تعليمه في جامعة كامبريدج، حيث درس الفيزياء النظرية. بعد حصوله على درجة الدكتوراه في الفيزياء، تحول اهتمامه إلى دراسة العلوم نفسها، ولكن من منظور اجتماعي وفلسفي. هذا التحول قاده إلى الانخراط في مجال دراسات العلوم والتكنولوجيا (STS)، الذي يهدف إلى فهم السياقات الاجتماعية والثقافية التي تشكل البحث العلمي والتطورات التكنولوجية.
مسيرته الأكاديمية
بعد إكمال دراساته، انضم بيكرينغ إلى هيئة التدريس في جامعة إلينوي في أوربانا شامبين، حيث عمل لعدة سنوات. لاحقًا، انتقل إلى جامعة إكستر في المملكة المتحدة، حيث يشغل حاليًا منصبًا أكاديميًا بارزًا. خلال مسيرته المهنية، قدم بيكرينغ مساهمات كبيرة في فهمنا لطبيعة العلوم وكيفية تفاعلها مع المجتمع.
أعماله الرئيسية
يُعرف أندرو بيكرينغ بأعماله الرائدة في مجال دراسات العلوم والتكنولوجيا. من بين أبرز كتبه ومقالاته:
- Constructing Quarks: A Sociological History of Particle Physics (1984): في هذا الكتاب، يقدم بيكرينغ تحليلًا اجتماعيًا لتطور فيزياء الجسيمات، مستكشفًا كيف أن المفاهيم والنظريات العلمية لا تنشأ في فراغ، بل تتشكل من خلال التفاعلات الاجتماعية والثقافية بين العلماء. يجادل بأن بناء الكواركات، وهي الجسيمات الأولية التي تشكل المادة، كان عملية معقدة تتأثر بالاعتبارات التجريبية والنظرية والاجتماعية.
- Science as Practice and Culture (1992): يقدم هذا الكتاب مجموعة من المقالات التي تستكشف مفهوم “العلم كممارسة”. يجادل بيكرينغ بأن العلم ليس مجرد مجموعة من الحقائق والنظريات، بل هو نشاط اجتماعي وثقافي يتضمن الممارسات والأدوات والمفاهيم التي يستخدمها العلماء في عملهم اليومي.
- The Mangle of Practice: Time, Agency, and Science (1995): يُعد هذا الكتاب من أهم أعمال بيكرينغ، حيث يقدم فيه مفهوم “المنجل” (Mangle) لوصف العلاقة الديناميكية بين العلماء والعالم المادي. يجادل بأن العلماء لا يكتشفون الحقائق ببساطة، بل يتفاعلون مع العالم بطريقة تخلق تشابكات معقدة من الأفعال والمقاومات.
- Cybernetics and the Mangle: Art, Automation and the Afterlife (2002): يستكشف هذا الكتاب العلاقة بين السبرانية (Cybernetics)، وهي دراسة التحكم والتواصل في الأنظمة المعقدة، ومفهوم “المنجل”. يحلل كيف أن السبرانية قد أثرت على الفن والأتمتة وفهمنا للحياة بعد الموت.
مفهوم “المنجل” (Mangle)
يُعد مفهوم “المنجل” (Mangle) أحد أهم المساهمات التي قدمها أندرو بيكرينغ في مجال دراسات العلوم والتكنولوجيا. يشير المنجل إلى العلاقة الديناميكية والمعقدة بين العلماء والعالم المادي. وفقًا لبيكرينغ، لا يكتشف العلماء الحقائق ببساطة، بل يتفاعلون مع العالم بطريقة تخلق تشابكات معقدة من الأفعال والمقاومات. هذه التشابكات تؤدي إلى تحويل كل من العلماء والعالم المادي.
يشرح بيكرينغ أن عملية “المنجل” تتكون من ثلاثة عناصر رئيسية:
- الأفعال (Actions): هي الأفعال التي يقوم بها العلماء، مثل إجراء التجارب، وتطوير النظريات، واستخدام الأدوات.
- المقاومات (Resistances): هي العقبات والتحديات التي يواجهها العلماء في عملهم، مثل المشاكل التقنية، والنتائج غير المتوقعة، والانتقادات من الزملاء.
- الإقامات (Accommodations): هي التعديلات والتغييرات التي يقوم بها العلماء استجابة للمقاومات. قد تشمل هذه التعديلات تغيير النظريات، وتطوير أدوات جديدة، أو تغيير طرق إجراء التجارب.
من خلال عملية “المنجل”، يتم تشكيل كل من العلماء والعالم المادي. يتعلم العلماء من خلال تفاعلهم مع العالم، وتتغير النظريات والأدوات العلمية استجابةً للمقاومات التي يواجهونها. في الوقت نفسه، يتغير العالم المادي من خلال تدخل العلماء. على سبيل المثال، قد يؤدي تطوير دواء جديد إلى تغيير مسار مرض ما، أو قد يؤدي بناء جسر إلى تغيير حركة المرور.
ثقافة الممارسة
يركز بيكرينغ أيضًا على أهمية “ثقافة الممارسة” في العلوم. يرى أن المعرفة العلمية ليست مجرد مجموعة من الحقائق المجردة، بل هي متجذرة في الممارسات اليومية للعلماء. هذه الممارسات تشمل استخدام الأدوات، وإجراء التجارب، والتفاعل مع الزملاء، وكتابة المقالات. من خلال دراسة هذه الممارسات، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل كيف يتم إنتاج المعرفة العلمية.
تتضمن “ثقافة الممارسة” العناصر التالية:
- الأدوات والمعدات: الأدوات والمعدات التي يستخدمها العلماء في عملهم، مثل التلسكوبات، والمجاهر، وأجهزة الكمبيوتر.
- التقنيات والإجراءات: التقنيات والإجراءات التي يستخدمها العلماء لإجراء التجارب وجمع البيانات.
- المفاهيم والنظريات: المفاهيم والنظريات التي يستخدمها العلماء لتفسير البيانات.
- التفاعلات الاجتماعية: التفاعلات الاجتماعية بين العلماء، مثل المناقشات، والتعاون، والانتقادات.
يجادل بيكرينغ بأن هذه العناصر تتفاعل مع بعضها البعض بطريقة معقدة لإنتاج المعرفة العلمية. على سبيل المثال، قد يؤدي تطوير أداة جديدة إلى تغيير طريقة إجراء التجارب، مما قد يؤدي بدوره إلى تغيير المفاهيم والنظريات العلمية.
الجدل المفتوح
يشدد بيكرينغ على أهمية “الجدل المفتوح” في العلوم. يرى أن العلم ليس عملية تراكمية بسيطة للمعرفة، بل هو عملية مستمرة من الجدل والنقاش. من خلال الجدل المفتوح، يتم تحدي النظريات والمفاهيم العلمية، ويتم تطوير أفكار جديدة.
يشجع بيكرينغ على خلق بيئة علمية تشجع على الجدل المفتوح والنقد البناء. يرى أن هذا سيؤدي إلى إنتاج معرفة علمية أكثر قوة وموثوقية.
يعتقد بيكرينغ أن “الجدل المفتوح” يجب أن يشمل:
- تشجيع النقد: تشجيع العلماء على انتقاد النظريات والمفاهيم العلمية القائمة.
- الاستماع إلى وجهات النظر المختلفة: الاستماع إلى وجهات النظر المختلفة، حتى لو كانت غير تقليدية.
- تقبل الخطأ: تقبل أن العلماء قد يرتكبون أخطاء، وأن هذه الأخطاء يمكن أن تكون مفيدة في تطوير المعرفة العلمية.
تأثيره وإرثه
يُعد أندرو بيكرينغ شخصية مؤثرة في مجال دراسات العلوم والتكنولوجيا. لقد ساهمت أعماله في تغيير طريقة فهمنا لطبيعة العلم وكيفية تفاعله مع المجتمع. لقد ألهمت أفكاره العديد من الباحثين في مجالات مختلفة، بما في ذلك علم الاجتماع والفلسفة والتاريخ والعلوم والتكنولوجيا.
لا يزال بيكرينغ نشطًا في البحث والكتابة، ويواصل تقديم مساهمات قيمة في فهمنا للعلم والتكنولوجيا والمجتمع. إن منهجه المتعدد التخصصات ورؤيته الثاقبة تجعله شخصية بارزة في مجال دراسات العلوم والتكنولوجيا.
خاتمة
أندرو بيكرينغ هو عالم اجتماع وفيلسوف ومؤرخ بريطاني بارز في مجال العلوم. يتميز بيكرينغ بمنهجه المتعدد التخصصات الذي يجمع بين علم الاجتماع والفلسفة والتاريخ لاستكشاف طبيعة المعرفة العلمية وكيفية إنتاجها. يُعرف بشكل خاص بعمله حول “ثقافة الممارسة” و”الجدل المفتوح” في العلوم، بالإضافة إلى مفهوم “المنجل” الذي يصف العلاقة الديناميكية بين العلماء والعالم المادي. لقد ساهمت أعماله في تغيير طريقة فهمنا لطبيعة العلم وكيفية تفاعله مع المجتمع، ولا يزال يقدم مساهمات قيمة في هذا المجال.