مفهوم التماهي عند بيرك: نظرة عامة
ينطلق بيرك من فكرة أساسية مفادها أن البشر كائنات اجتماعية تسعى باستمرار إلى الانتماء والتواصل مع الآخرين. هذا الدافع الفطري للانتماء يجعلههم عرضة للتأثر بمن يشعرون بالتماهي معهم. فالتماهي، بالنسبة لبيرك، ليس مجرد تطابق في الآراء أو تبني لوجهات نظر الآخرين، بل هو عملية معقدة تتضمن المشاركة في الخبرات، والاعتراف بالهوية، وتبادل القيم، وتكوين تصورات مشتركة للعالم.
يعتبر بيرك أن البلاغة ليست مجرد فن للإقناع، بل هي أداة لخلق الوحدة والتضامن بين الناس. من خلال التماهي، يمكن للمتحدث أن يقنع الجمهور بوجهة نظره، ليس بالضرورة من خلال الحجج المنطقية أو الأدلة القاطعة، بل من خلال بناء علاقة عاطفية وشعور بالانتماء المتبادل. هذا الشعور بالانتماء يجعل الجمهور أكثر تقبلاً لأفكار المتحدث، وأكثر استعدادًا للعمل وفقًا لتوجيهاته.
آليات التماهي: كيف يتحقق التماهي في الخطاب؟
يقدم بيرك مجموعة من الآليات التي يمكن من خلالها تحقيق التماهي في الخطاب. بعض هذه الآليات تشمل:
- اللغة المشتركة: استخدام لغة يفهمها الجمهور ويتحدث بها، بما في ذلك المصطلحات العامية والعبارات المألوفة. هذا يخلق شعورًا بالألفة والتقارب بين المتحدث والجمهور.
- القيم المشتركة: التركيز على القيم التي يؤمن بها المتحدث والجمهور على حد سواء، مثل العدالة والمساواة والحرية. هذا يخلق شعورًا بالتوافق والانسجام بين الطرفين.
- العدو المشترك: تحديد عدو مشترك يكرهه المتحدث والجمهور على حد سواء. هذا يخلق شعورًا بالوحدة والتضامن ضد هذا العدو.
- التقليل من الذات (Mortification): اعتراف المتحدث بأخطائه وعيوبه، مما يجعله يبدو أكثر تواضعًا وإنسانية في نظر الجمهور.
- التعويض (Victimage): تصوير المتحدث أو الجمهور كضحايا لظروف قاهرة أو قوى خارجية. هذا يخلق شعورًا بالتعاطف والتضامن معهم.
- السمات المادية المشتركة: التشابه في المظهر أو الخلفية أو الخبرات بين المتحدث والجمهور يمكن أن يعزز الشعور بالتماهي.
- التورية (Ambiguity): استخدام لغة غامضة أو تحتمل تفسيرات متعددة، مما يسمح للجمهور بإيجاد معاني تتناسب مع مصالحهم وقيمهم.
أهمية التماهي في مختلف مجالات التواصل
تتجاوز أهمية التماهي المجال البلاغي النظري لتشمل مختلف مجالات التواصل، بما في ذلك:
- السياسة: يستخدم السياسيون التماهي لكسب تأييد الناخبين من خلال التركيز على القضايا التي تهمهم، والتعبير عن القيم التي يؤمنون بها، وتصوير أنفسهم كممثلين لمصالحهم.
- الإعلان: تستخدم الشركات الإعلانية التماهي لترويج منتجاتها وخدماتها من خلال ربطها بصور نمطية إيجابية، أو بقيم مرغوبة، أو بتجارب ممتعة.
- العلاقات العامة: تستخدم مؤسسات العلاقات العامة التماهي لتحسين صورة المؤسسة لدى الجمهور من خلال التأكيد على مساهماتها الاجتماعية، وقيمها الأخلاقية، وعلاقاتها الإيجابية مع المجتمع.
- التواصل بين الأشخاص: يلعب التماهي دورًا حاسمًا في بناء العلاقات الشخصية الناجحة من خلال إيجاد أرضية مشتركة، وتبادل الاهتمامات، والتعبير عن التعاطف والتفهم.
- التدريس: يستطيع المعلم الفعال أن يبني علاقة تماهي مع طلابه من خلال فهم احتياجاتهم، وتقدير خلفياتهم المختلفة، وتقديم المحتوى التعليمي بطريقة تجعلهم يشعرون بالارتباط والانتماء.
انتقادات لمفهوم التماهي
على الرغم من أهمية مفهوم التماهي في فهم البلاغة والتواصل، إلا أنه لم يسلم من الانتقادات. بعض هذه الانتقادات تشمل:
- الاحتمالية للتلاعب: يرى بعض النقاد أن التماهي يمكن استخدامه للتلاعب بالجمهور من خلال إثارة مشاعرهم واستغلال نقاط ضعفهم، مما يؤدي إلى اتخاذ قرارات غير عقلانية أو غير مصلحية.
- تجاهل الاختلافات: يرى آخرون أن التركيز المفرط على التماهي قد يؤدي إلى تجاهل الاختلافات بين الناس، وإلى قمع الأصوات المختلفة، وإلى تكريس الصور النمطية.
- غموض المفهوم: يرى بعض النقاد أن مفهوم التماهي غامض وغير محدد بدقة، مما يجعل من الصعب قياسه أو تقييمه بشكل موضوعي.
يجدر بالذكر أن بيرك كان على دراية بهذه الانتقادات، وحاول معالجتها في كتاباته. كان يؤكد على أهمية التفكير النقدي، وعلى ضرورة أن يكون الجمهور واعيًا بآليات التماهي المستخدمة في الخطاب، حتى يتمكن من اتخاذ قرارات مستنيرة.
التماهي والهوية
يرتبط مفهوم التماهي ارتباطًا وثيقًا بمفهوم الهوية. فالهوية، سواء كانت هوية فردية أو جماعية، تتشكل من خلال عملية التماهي مع الآخرين، ومن خلال تبني قيم ومعتقدات وممارسات معينة. من خلال التماهي مع مجموعة معينة، يشعر الفرد بالانتماء والأمان والدعم الاجتماعي.
في المقابل، يمكن أن يؤدي عدم القدرة على التماهي مع الآخرين إلى الشعور بالعزلة والاغتراب وفقدان الهوية. هذا ما يفسر أهمية التماهي في المجتمعات المتغيرة والمتنوعة، حيث يسعى الأفراد إلى إيجاد هويات جديدة، وإلى بناء علاقات مع أشخاص من خلفيات مختلفة.
التماهي في العصر الرقمي
في العصر الرقمي، أصبح التماهي أكثر تعقيدًا وتأثيرًا. وسائل التواصل الاجتماعي توفر منصات واسعة للتعبير عن الذات، وللتواصل مع الآخرين، وللتماهي مع مجموعات مختلفة. يمكن للأفراد أن يجدوا مجتمعات عبر الإنترنت تشاركهم اهتماماتهم وقيمهم، وأن يبنوا علاقات مع أشخاص من جميع أنحاء العالم.
ومع ذلك، يمكن أن يكون للتماهي في العصر الرقمي جوانب سلبية أيضًا. يمكن أن تؤدي وسائل التواصل الاجتماعي إلى انتشار المعلومات المضللة، وإلى تكوين فقاعات معلوماتية تعزز الآراء المسبقة، وإلى تضخيم المشاعر السلبية، مما يزيد من حدة الانقسامات الاجتماعية.
خاتمة
في الختام، يعتبر مفهوم التماهي عند كينيث بيرك مفهومًا أساسيًا لفهم البلاغة والتواصل الفعال. التماهي ليس مجرد وسيلة للإقناع، بل هو أداة لخلق الوحدة والتضامن بين الناس. من خلال فهم آليات التماهي، يمكننا أن نصبح أكثر وعيًا بتأثير الخطاب علينا، وأن نتخذ قرارات أكثر استنارة. كما يمكننا أن نستخدم التماهي لبناء علاقات شخصية ناجحة، وللمساهمة في بناء مجتمعات أكثر تماسكًا وتسامحًا.