أصل المفهوم وتطوره
قبل تقديم مفهوم السينثوم، كان لاكان يعتمد على نظرية الأعراض الفرويدية، حيث يُنظر إلى العَرَض على أنه تعبير رمزي عن صراع لاشعوري. ومع ذلك، مع تطور نظريته، بدأ لاكان في الابتعاد عن هذا الفهم الرمزي، مؤكدًا على أهمية الواقعي (the Real) في التجربة الإنسانية. الواقعي، في نظرية لاكان، هو ما يقاوم الرمزية، ما لا يمكن التعبير عنه بالكلمات أو استيعابه في النظام الرمزي. السينثوم، في هذا السياق، هو محاولة لربط الفرد بالواقعي، إنه طريقة للتكيف مع ما لا يمكن فهمه أو تفسيره.
يتجذر مفهوم السينثوم في كلمة “Saint Thomas” (القديس توما الأكويني)، وهو عالم لاهوت وفيلسوف من القرون الوسطى. استخدم لاكان هذه الكلمة للإشارة إلى وظيفة الترقيع أو التجميع التي يقوم بها السينثوم، حيث يجمع بين العناصر المتباينة والمتنافرة لتشكيل وحدة متماسكة. كما يشير أيضًا إلى الطريقة التي يحاول بها الفرد “ترقيع” أو “إصلاح” الصدع في النظام الرمزي، الصدع الذي يمثله الواقعي.
السينثوم والاستمتاع (Jouissance)
الاستمتاع هو مفهوم أساسي في نظرية لاكان، وهو يشير إلى شكل من أشكال المتعة يتجاوز مبدأ اللذة الفرويدي. إنه ليس مجرد إشباع للرغبة، بل هو نوع من الفائض أو الزيادة التي تتجاوز حدود الرمزية. يرتبط السينثوم ارتباطًا وثيقًا بالاستمتاع، فهو الطريقة التي ينظم بها الفرد استمتاعه الخاص. بدلاً من أن يكون الاستمتاع مجرد تجربة عشوائية أو فوضوية، يتم هيكلته وتنظيمه من خلال السينثوم.
بعبارة أخرى، السينثوم هو طريقة الفرد الفريدة في الاستمتاع، إنه “بصمة” الاستمتاع الخاصة به. قد يكون هذا الاستمتاع مؤلمًا أو مدمرًا، لكنه يظل جزءًا أساسيًا من هوية الفرد. على سبيل المثال، قد يعاني شخص ما من سلوك قهري مدمر، لكن هذا السلوك يمثل أيضًا طريقته الخاصة في التعامل مع القلق أو التوتر. السينثوم، في هذه الحالة، ليس مجرد عَرَض يجب علاجه، بل هو أيضًا تعبير عن طريقة الفرد الفريدة في الاستمتاع.
السينثوم كهوية
يمثل السينثوم، وفقًا للاكان، جوهر هوية الفرد. إنه ليس مجرد مجموعة من الأعراض أو السلوكيات، بل هو البنية الأساسية التي تحدد طريقة الفرد في الوجود في العالم. يتجاوز السينثوم الهوية القائمة على التماهي مع الآخرين أو الاندماج في النظام الرمزي. إنه يتعلق بما هو فريد وخاص بالفرد، بما لا يمكن اختزاله إلى أي فئة أو تصنيف.
يمكن اعتبار السينثوم بمثابة “الاسم الخاص” للفرد، الاسم الذي يميزه عن الآخرين ويحدد هويته الفريدة. إنه ليس الاسم الذي يعطيه له الآخرون، بل هو الاسم الذي يكتشفه بنفسه من خلال تجربته الخاصة. هذا الاكتشاف قد يكون مؤلمًا وصعبًا، لكنه ضروري لكي يتمكن الفرد من امتلاك حياته الخاصة.
السينثوم والتحليل النفسي
يقدم مفهوم السينثوم منظورًا جديدًا للتحليل النفسي. بدلاً من التركيز على تفسير الأعراض أو الكشف عن الصراعات اللاشعورية، يركز التحليل النفسي القائم على مفهوم السينثوم على مساعدة الفرد على فهم سينثومه الخاص وتقبله. الهدف ليس القضاء على السينثوم، بل تعلم كيفية التعامل معه وكيفية استخدامه بطريقة بناءة.
يتمثل دور المحلل النفسي في هذا السياق في مساعدة الفرد على تحديد العناصر التي تشكل سينثومه الخاص، وكيفية ارتباط هذه العناصر ببعضها البعض، وكيفية تأثيرها على حياته. من خلال هذه العملية، يمكن للفرد أن يصبح أكثر وعيًا بذاته وبطريقته الخاصة في الوجود في العالم. يمكنه أيضًا أن يتعلم كيفية استخدام سينثومه الخاص كمصدر للقوة والإبداع، بدلاً من أن يكون مجرد عبء أو عائق.
التحليل النفسي، في هذا الإطار، لا يسعى إلى “شفاء” المريض، بل إلى مساعدته على أن يصبح أكثر أصالة وفرادية. إنه يسعى إلى تحرير الفرد من القيود التي يفرضها عليه النظام الرمزي، والسماح له بالتعبير عن نفسه بطريقته الخاصة.
السينثوم والفن
يرى لاكان أن الفن هو أحد المجالات التي يمكن أن يظهر فيها السينثوم بوضوح. الفنان، من خلال عمله، يعبر عن سينثومه الخاص، عن طريقته الفريدة في رؤية العالم وتفسيره. العمل الفني، في هذا السياق، ليس مجرد تمثيل للواقع، بل هو تعبير عن الواقعي، عن ما يقاوم الرمزية.
يمكن اعتبار العمل الفني بمثابة “إعادة كتابة” للسينثوم، طريقة لتحويله من شيء مؤلم أو مدمر إلى شيء جميل أو مبدع. من خلال الفن، يمكن للفنان أن يجد طريقة للتعبير عن نفسه بطريقة لا يمكنه القيام بها بالكلمات. يمكنه أيضًا أن يجد طريقة للتواصل مع الآخرين، ومشاركة تجربته الخاصة معهم.
على سبيل المثال، يمكن اعتبار أعمال فان جوخ تعبيرًا عن سينثومه الخاص، عن طريقته الفريدة في التعامل مع الألم والمعاناة. من خلال لوحاته، تمكن فان جوخ من تحويل معاناته إلى شيء جميل ومؤثر. يمكن اعتبار أعماله بمثابة شهادة على قوة السينثوم، وعلى قدرته على تحويل الألم إلى إبداع.
أمثلة على السينثوم
من الصعب تقديم أمثلة محددة على السينثوم، لأنه شيء فريد وخاص بكل فرد. ومع ذلك، يمكن تقديم بعض الأمثلة العامة لتوضيح المفهوم:
- السلوك القهري: قد يعاني شخص ما من سلوك قهري، مثل غسل اليدين بشكل متكرر أو التحقق من الأبواب بشكل متكرر. هذا السلوك قد يكون مزعجًا ومؤثرًا على حياة الفرد، لكنه يمثل أيضًا طريقته الخاصة في التعامل مع القلق أو التوتر.
- الإدمان: قد يعاني شخص ما من إدمان على المخدرات أو الكحول أو الجنس أو أي شيء آخر. هذا الإدمان قد يكون مدمرًا لصحة الفرد وعلاقاته، لكنه يمثل أيضًا طريقته الخاصة في البحث عن المتعة أو الهروب من الألم.
- العلاقات المؤذية: قد يجد شخص ما نفسه منجذبًا إلى العلاقات المؤذية أو المدمرة. هذه العلاقات قد تكون مؤلمة ومزعجة، لكنها تمثل أيضًا طريقته الخاصة في البحث عن الحب أو الاهتمام.
- الوسواس القهري: الأفكار المتكررة وغير المرغوب فيها التي تسبب القلق والضيق هي مثال على السينثوم.
في كل هذه الحالات، يمثل السينثوم طريقة الفرد الفريدة في الاستمتاع وفي التعامل مع الواقع. إنه ليس مجرد عَرَض يجب علاجه، بل هو جزء أساسي من هوية الفرد.
خاتمة
السينثوم هو مفهوم معقد وغني يقدم منظورًا جديدًا للأعراض النفسية التحليلية. بدلاً من النظر إلى العَرَض على أنه رسالة مشفرة أو تكوين حل وسط، ينظر إليه السينثوم على أنه طريقة الفرد الفريدة في الاستمتاع وفي التعامل مع الواقع. السينثوم هو جوهر هوية الفرد، وهو ليس مجرد مجموعة من الأعراض أو السلوكيات، بل هو البنية الأساسية التي تحدد طريقة الفرد في الوجود في العالم. فهم السينثوم وتقبله يمكن أن يكون له آثار عميقة على التحليل النفسي وعلى حياة الفرد بشكل عام.