مقدمة
يُعد كتاب “بحث في الفهم الإنساني” للفيلسوف الإسكتلندي التجريبي ديفيد هيوم، الذي نُشر باللغة الإنجليزية عام 1748، عملًا محوريًا في تاريخ الفلسفة الغربية. يمثل الكتاب إعادة صياغة أكثر إيجازًا وسهولة لفصول معينة من عمله السابق الأكبر، “رسالة في الطبيعة البشرية” (1739-1740). بينما لم تلقَ “الرسالة” استحسانًا كبيرًا في البداية، حقق “البحث” نجاحًا فوريًا، ليصبح أحد أكثر الأعمال الفلسفية تأثيرًا على الإطلاق.
في هذا الكتاب، يسعى هيوم إلى استكشاف طبيعة الفهم البشري وحدوده، وذلك من خلال فحص الأسس التي تقوم عليها معارفنا ومعتقداتنا. يعتمد هيوم على المنهج التجريبي، الذي يؤكد على أهمية التجربة والملاحظة في اكتساب المعرفة. يرفض هيوم الأفكار الفطرية، ويدعي أن جميع معارفنا مستمدة من الانطباعات الحسية والأفكار.
نظرية المعرفة عند هيوم
يقدم هيوم تمييزًا حاسمًا بين نوعين من الإدراكات الذهنية: الانطباعات والأفكار. الانطباعات هي الإدراكات الحية والقوية التي نختبرها مباشرة من خلال الحواس أو المشاعر. أما الأفكار، فهي نسخ باهتة من هذه الانطباعات، تتشكل عندما نتذكر أو نتخيل تجاربنا.
يؤكد هيوم أن جميع أفكارنا، مهما بدت معقدة أو مجردة، يمكن تتبعها في نهاية المطاف إلى انطباعات حسية أصلية. بمعنى آخر، لا يمكننا أن نفكر في أي شيء لم نختبره من قبل بطريقة ما. هذه الفكرة الأساسية تشكل حجر الزاوية في فلسفة هيوم التجريبية.
يقسم هيوم موضوعات الفكر البشري إلى نوعين رئيسيين: علاقات الأفكار ووقائع الأمور. علاقات الأفكار هي الحقائق الضرورية التي يمكن اكتشافها من خلال مجرد تشغيل الفكر، مثل الحقائق الرياضية والمنطقية. أما وقائع الأمور، فهي الحقائق العرضية التي تعتمد على التجربة، ولا يمكن معرفتها إلا من خلال الملاحظة.
- علاقات الأفكار: تعتمد على البديهيات والاستنتاجات المنطقية، مثل “المربع له أربعة أضلاع” أو “5 + 7 = 12”.
- وقائع الأمور: تعتمد على التجربة والملاحظة، مثل “الشمس ستشرق غدًا” أو “الماء يغلي عند درجة حرارة 100 درجة مئوية”.
مشكلة الاستقراء
يطرح هيوم تحديًا عميقًا للمعرفة القائمة على الاستقراء، وهو عملية استنتاج قوانين عامة من ملاحظات محددة. على سبيل المثال، نفترض أن الشمس ستشرق غدًا بناءً على ملاحظتنا لظهورها كل يوم في الماضي. لكن هيوم يتساءل: ما هو الأساس المنطقي لهذا الافتراض؟
يجادل هيوم بأنه لا يوجد مبرر منطقي للاستقراء. فمجرد أن حدث شيء ما في الماضي لا يضمن أنه سيحدث في المستقبل. استنتاجنا بأن الشمس ستشرق غدًا يعتمد على افتراض انتظام الطبيعة، أي أن الطبيعة ستستمر في العمل بنفس الطريقة التي عملت بها في الماضي. لكن هذا الافتراض نفسه لا يمكن تبريره إلا بالاستقراء، مما يؤدي إلى حلقة مفرغة.
يقترح هيوم أن إيماننا بالاستقراء يعتمد على العادة أو الاعتياد. عندما نلاحظ باستمرار حدوث حدثين معًا، فإننا نطور توقعًا بأن أحدهما سيتبع الآخر. هذا التوقع ليس مبنيًا على العقل أو المنطق، بل على مجرد ارتباط ذهني بين الحدثين.
تعتبر مشكلة الاستقراء من أهم المشكلات في فلسفة المعرفة، ولها آثار عميقة على فهمنا للعلم والمنطق والاستدلال. لقد أثارت هذه المشكلة نقاشات واسعة النطاق بين الفلاسفة والعلماء، ولا تزال موضوعًا للبحث والتفكير حتى اليوم.
السببية
يناقش هيوم مفهوم السببية بعمق، ويفحص العلاقة بين السبب والنتيجة. يرفض هيوم الفكرة القائلة بأننا نستطيع إدراك وجود قوة ضرورية تربط بين السبب والنتيجة. بدلاً من ذلك، يرى أن علاقة السبب والنتيجة تقوم على ثلاثة عناصر:
- التقارب المكاني والزماني: يجب أن يكون السبب والنتيجة متقاربين في المكان والزمان.
- الأسبقية الزمنية: يجب أن يسبق السبب النتيجة في الزمن.
- الاقتران الثابت: يجب أن نلاحظ باستمرار حدوث السبب والنتيجة معًا.
يجادل هيوم بأننا لا نستطيع أن نرى أو نختبر أي شيء يتجاوز هذه العناصر الثلاثة. فكرة “القوة الضرورية” التي تربط السبب بالنتيجة هي مجرد استنتاج نستخلصه من تجربتنا في ملاحظة الاقتران الثابت بين الحدثين. بمعنى آخر، نحن لا نرى السببية، بل نستنتجها.
يثير تحليل هيوم للسببية تساؤلات حول طبيعة القوانين العلمية. إذا كانت علاقات السبب والنتيجة مجرد ارتباطات ثابتة، فهل يمكننا حقًا أن نقول إن القوانين العلمية تصف علاقات ضرورية بين الظواهر الطبيعية؟
نقد الميتافيزيقا
يمتد نقد هيوم التجريبي إلى الميتافيزيقا، وهي فرع الفلسفة الذي يتعامل مع الأسئلة المتعلقة بالواقع النهائي والوجود. ينتقد هيوم المفاهيم الميتافيزيقية التقليدية مثل الجوهر والنفس والله، مدعيًا أنها مفاهيم فارغة لا تستند إلى أي انطباعات حسية.
يرى هيوم أننا لا نستطيع أن نختبر الجوهر بشكل مباشر. نحن نختبر فقط صفات وأعراض الأشياء، ولكننا لا نرى الجوهر الذي يكمن وراء هذه الصفات. وبالتالي، فإن فكرة الجوهر هي مجرد افتراض لا يمكن التحقق منه.
وبالمثل، ينتقد هيوم فكرة النفس باعتبارها كيانًا ثابتًا ومستمرًا. يرى هيوم أننا نختبر فقط سلسلة من الإدراكات والأفكار المتغيرة باستمرار، ولكننا لا نختبر أي شيء يمكن أن نطلق عليه “النفس”. فكرة النفس هي مجرد بناء ذهني نستخدمه لربط هذه الإدراكات ببعضها البعض.
يوجه هيوم انتقادات مماثلة للمفاهيم الدينية، مثل فكرة الله. يجادل هيوم بأنه لا يوجد دليل تجريبي على وجود الله، وأن الحجج التقليدية لإثبات وجود الله تعتمد على افتراضات غير مبررة.
التأثير والأهمية
كان لكتاب “بحث في الفهم الإنساني” تأثير عميق على الفلسفة الغربية. لقد أثر هيوم بشكل كبير على الفلاسفة اللاحقين، بمن فيهم إيمانويل كانط، الذي اعترف بأن هيوم أيقظه من “سباته الدوغمائي”.
لقد ساهم هيوم في تطوير الفلسفة التجريبية، وساعد في تشكيل العلوم الحديثة. أكد هيوم على أهمية التجربة والملاحظة في اكتساب المعرفة، ورفض الأفكار الفطرية والمفاهيم الميتافيزيقية التي لا تستند إلى أي دليل تجريبي.
لا تزال أفكار هيوم ذات صلة اليوم، وتثير نقاشات حادة بين الفلاسفة والعلماء. إن تحليله لمشكلة الاستقراء، ونقده للسببية، وتشكيكه في الميتافيزيقا، كلها قضايا مهمة لا تزال تشغل الفكر الفلسفي المعاصر.
خاتمة
يمثل كتاب “بحث في الفهم الإنساني” عملًا فلسفيًا عميقًا ومؤثرًا يستكشف طبيعة المعرفة البشرية وحدودها. من خلال اعتماده على المنهج التجريبي، يقدم هيوم تحليلًا نقديًا للمفاهيم الأساسية مثل السببية والاستقراء والميتافيزيقا. يظل هذا الكتاب مرجعًا أساسيًا للباحثين والمهتمين بالفلسفة، ويشكل تحديًا دائمًا لفهمنا للعالم وأنفسنا.