الخلفية التاريخية ونشأة الجيش الجمهوري الأيرلندي
تعود جذور الجيش الجمهوري الأيرلندي إلى النزعة القومية الأيرلندية التي تفاقمت على مر القرون تحت الحكم البريطاني. أدت المجاعة الكبرى في أربعينيات القرن التاسع عشر، والتي شهدت وفاة وهجرة الملايين من الأيرلنديين، إلى زيادة الاستياء الشعبي وتأجيج الحركات المطالبة بالحكم الذاتي. بحلول مطلع القرن العشرين، كانت الدعوات إلى الاستقلال التام تكتسب زخماً، خاصة في ظل تنامي قوة الحركات القومية.
شكل المتطوعون الأيرلنديون، وهي قوة عسكرية قومية تأسست عام 1913، النواة الأساسية للجيش الجمهوري الأيرلندي. كان الهدف الرئيسي للمتطوعين هو تأمين الحكم الذاتي لأيرلندا، وهو شكل من أشكال الحكم المحلي داخل المملكة المتحدة. ومع ذلك، أدت الحرب العالمية الأولى وتأجيل تطبيق قانون الحكم الذاتي إلى انقسام في صفوف المتطوعين. فئة صغيرة لكنها مؤثرة، بقيادة شخصيات مثل باتريك بيرس وجوزيف بلانكيت، فضلت انتهاز فرصة الحرب لإطلاق ثورة مسلحة.
اندلعت ثورة عيد الفصح في أبريل 1916، حيث استولى المتطوعون الأيرلنديون وجيش المواطنين الأيرلندي على مبانٍ رئيسية في دبلن وأعلنوا الجمهورية الأيرلندية. على الرغم من قمع التمرد بوحشية من قبل القوات البريطانية وإعدام قادته، إلا أن الثورة أشعلت نار النزعة القومية الأيرلندية وأدت إلى تحول كبير في الرأي العام لصالح الاستقلال التام.
حرب الاستقلال الأيرلندية (1919-1921)
بعد ثورة عيد الفصح، أعيد تنظيم المتطوعين الأيرلنديين تحت اسم الجيش الجمهوري الأيرلندي. بقيادة شخصيات مثل مايكل كولينز، شن الجيش الجمهوري الأيرلندي حرب عصابات ضد القوات البريطانية والشرطة الملكية الأيرلندية. استهدفت وحدات الجيش الجمهوري الأيرلندي الثكنات ومراكز الشرطة والمصالح الحكومية، مستخدمة تكتيكات الكر والفر وتجنب المواجهات المباشرة مع القوات النظامية.
تميزت حرب الاستقلال الأيرلندية بوحشية الطرفين. لجأت القوات البريطانية إلى تدابير قمعية، بما في ذلك عمليات الإعدام بإجراءات موجزة والإحراق المتعمد للممتلكات. في المقابل، استخدم الجيش الجمهوري الأيرلندي الاغتيالات والتفجيرات لتقويض السلطة البريطانية وبث الرعب في صفوف أعدائه. أدت الحرب إلى سقوط آلاف الضحايا من المدنيين والعسكريين على حد سواء، وتركت جراحاً عميقة في المجتمع الأيرلندي.
بحلول عام 1921، وصلت الحرب إلى طريق مسدود. كانت بريطانيا متعبة من الحرب، وتواجه ضغوطاً دولية متزايدة لإنهاء الصراع. في الوقت نفسه، كان الجيش الجمهوري الأيرلندي يعاني من نقص في الموارد والإمدادات. في يوليو 1921، تم التوصل إلى هدنة، وبدأت المفاوضات بين الحكومة البريطانية وممثلي الجمهورية الأيرلندية.
المعاهدة الأنجلو-أيرلندية والانقسام
أدت المفاوضات بين الحكومة البريطانية والوفد الأيرلندي، برئاسة آرثر جريفيث ومايكل كولينز، إلى توقيع المعاهدة الأنجلو-أيرلندية في ديسمبر 1921. نصت المعاهدة على إنشاء الدولة الأيرلندية الحرة، وهي دولة تتمتع بالحكم الذاتي داخل الإمبراطورية البريطانية. ومع ذلك، تضمنت المعاهدة أيضاً شروطاً مثيرة للجدل، بما في ذلك تقسيم أيرلندا والإبقاء على ست مقاطعات في أيرلندا الشمالية تحت الحكم البريطاني، بالإضافة إلى قسم الولاء للتاج البريطاني.
أدى توقيع المعاهدة الأنجلو-أيرلندية إلى انقسام عميق في صفوف الجيش الجمهوري الأيرلندي والحركة القومية الأيرلندية. أيدت فئة بقيادة مايكل كولينز المعاهدة، معتقدة أنها تمثل أفضل تسوية ممكنة في ظل الظروف الراهنة وأنها توفر الأساس لمزيد من التقدم نحو الاستقلال التام. في المقابل، عارضت فئة أخرى بقيادة إيمون دي فاليرا المعاهدة، معتبرة أنها خيانة لمبادئ الجمهورية الأيرلندية وأنها تكرس تقسيم البلاد.
أدى هذا الانقسام إلى اندلاع الحرب الأهلية الأيرلندية (1922-1923) بين قوات الدولة الأيرلندية الحرة المؤيدة للمعاهدة والجيش الجمهوري الأيرلندي المعارض للمعاهدة. كانت الحرب الأهلية صراعاً مريراً ودموياً، أودى بحياة العديد من الشخصيات البارزة، بما في ذلك مايكل كولينز. انتهت الحرب بانتصار قوات الدولة الأيرلندية الحرة، لكنها تركت جراحاً عميقة في المجتمع الأيرلندي استغرقت سنوات عديدة للشفاء.
الجيش الجمهوري الأيرلندي بعد الحرب الأهلية
بعد هزيمته في الحرب الأهلية، استمر الجيش الجمهوري الأيرلندي في الوجود كمنظمة سرية، وإن كان ضعيفاً ومنقسماً. شهدت المنظمة انقسامات داخلية وتغيرات في القيادة على مر السنين، وتبنت أساليب مختلفة لتحقيق أهدافها، بما في ذلك العمل السياسي والعنف المسلح.
في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، شارك الجيش الجمهوري الأيرلندي في حملات تفجير وعمليات تخريب في بريطانيا الشمالية وأيرلندا، بهدف الضغط على الحكومة البريطانية لإنهاء تقسيم أيرلندا. خلال الحرب العالمية الثانية، أبدى بعض أعضاء الجيش الجمهوري الأيرلندي تعاطفاً مع ألمانيا النازية، على أمل الحصول على دعمها في تحقيق الاستقلال الأيرلندي. ومع ذلك، لم يحظ هذا الموقف بدعم واسع النطاق داخل المنظمة.
في أواخر الستينيات، تصاعدت التوترات الطائفية في أيرلندا الشمالية بين الكاثوليك القوميين والبروتستانت الموالين. أدى تفاقم العنف إلى تدخل الجيش البريطاني وإعادة تنشيط الجيش الجمهوري الأيرلندي، الذي انقسم إلى فصيلين رئيسيين: الجيش الجمهوري الأيرلندي الرسمي والجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت.
الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت والصراع في أيرلندا الشمالية
برز الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت كأقوى وأكثر الفصائل نفوذاً في الجيش الجمهوري الأيرلندي. تبنى الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت استراتيجية عنيفة تهدف إلى تحقيق الوحدة الأيرلندية من خلال إجبار بريطانيا على الانسحاب من أيرلندا الشمالية. شن الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت حملة تفجيرات واغتيالات واسعة النطاق استهدفت القوات البريطانية والشرطة وعناصر موالية، فضلاً عن أهداف مدنية في بعض الأحيان.
أدى عنف الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت إلى رد فعل عنيف من جانب القوات البريطانية والمجموعات شبه العسكرية الموالية، مما أدى إلى تصعيد الصراع في أيرلندا الشمالية. شهدت المنطقة أعمال عنف طائفية واسعة النطاق، وسقط آلاف الضحايا على مدى ثلاثة عقود من الصراع المعروف باسم “المشاكل” (The Troubles).
على الرغم من الجهود المتكررة للتوصل إلى تسوية سياسية، استمر الصراع في أيرلندا الشمالية حتى التسعينيات. في عام 1994، أعلن الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت وقف إطلاق النار، مما مهد الطريق للمفاوضات التي أدت إلى اتفاق الجمعة العظيمة في عام 1998. نص الاتفاق على تقاسم السلطة بين القوميين والموالين في أيرلندا الشمالية، وأرسى الأساس لسلام دائم.
نزع السلاح والحل
بعد اتفاق الجمعة العظيمة، واصل الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت الحفاظ على وقف إطلاق النار، ودخل في مفاوضات مع اللجنة الدولية المستقلة لنزع السلاح. في عام 2005، أعلن الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت رسمياً عن حل تنظيمه وأمر عناصره بإلقاء أسلحتهم. تم التحقق من نزع السلاح من قبل المراقبين الدوليين، مما يمثل نهاية حقبة في تاريخ الجيش الجمهوري الأيرلندي.
على الرغم من حل الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت، استمرت بعض الفصائل المنشقة في ممارسة العنف، معتبرة أن اتفاق الجمعة العظيمة لا يرقى إلى تحقيق الوحدة الأيرلندية. ومع ذلك، فإن هذه الجماعات المنشقة لا تحظى بدعم واسع النطاق، وتعتبر هامشية نسبياً.
خاتمة
كان الجيش الجمهوري الأيرلندي قوة مؤثرة في تاريخ أيرلندا، حيث لعب دوراً محورياً في حرب الاستقلال الأيرلندية والصراع في أيرلندا الشمالية. على مر السنين، تطورت المنظمة وتبنت أساليب مختلفة لتحقيق أهدافها، من العمل السياسي إلى العنف المسلح. أدت أعمال الجيش الجمهوري الأيرلندي إلى سقوط آلاف الضحايا وتركت جراحاً عميقة في المجتمع الأيرلندي. على الرغم من حل الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت ونزع سلاحه، إلا أن إرثه لا يزال يثير الجدل والانقسام في أيرلندا حتى اليوم.