مقدمة
سفر أخنوخ الثالث، ويُعرف أيضًا باسم “سفر هاخالوت”، هو نص ديني يهودي قديم ينتمي إلى الأدب الغنوصي القبالي. يُعتبر هذا السفر جزءًا من الأسفار الخارجية أو المنحولة، أي أنه ليس جزءًا من الكتاب المقدس العبري (التناخ) أو العهد القديم المسيحي. يزعم السفر أنه كُتب في القرن الخامس الميلادي، على الرغم من أن بعض الباحثين يعتقدون أنه قد يكون أقدم من ذلك، ربما يعود إلى القرن الثاني الميلادي. يُنسب السفر إلى الحاخام إسماعيل، وهو شخصية بارزة في الأدب التلمودي.
يتميز سفر أخنوخ الثالث بمحتواه التصوفي والخيالي، حيث يصف رحلة الحاخام إسماعيل إلى السماء وصعوده عبر سبعة قصور سماوية (هاخالوت) ليبلغ العرش الإلهي. خلال هذه الرحلة، يلتقي إسماعيل بالعديد من الملائكة والشخصيات السماوية، ويكشف له عن أسرار الكون والإله. يُعتبر السفر مصدرًا هامًا لفهم التصورات اليهودية المبكرة عن الملائكة والسماوات والعرش الإلهي.
محتوى السفر
يتكون سفر أخنوخ الثالث من عدة أقسام رئيسية، تتضمن:
- وصف صعود الحاخام إسماعيل: يروي السفر قصة صعود الحاخام إسماعيل إلى السماء، وكيف تمكن من تجاوز المخاطر والعقبات التي واجهته في كل قصر من القصور السماوية السبعة.
- رؤى العرش الإلهي: يصف السفر رؤى مفصلة للعرش الإلهي، والمخلوقات السماوية التي تحيط به، والأسرار الإلهية التي يتم الكشف عنها للحاخام إسماعيل.
- تحول أخنوخ إلى متاترون: يشرح السفر كيف تحول النبي أخنوخ، المذكور في الكتاب المقدس، إلى الملاك متاترون، وهو ملاك ذو مكانة رفيعة ويعتبر بمثابة “رئيس الملائكة” أو “نائب الرب”.
- أسماء وصفات الملائكة: يقدم السفر قائمة طويلة بأسماء الملائكة المختلفة، وصفاتهم، ووظائفهم في الكون.
- أسرار الخلق والتكوين: يكشف السفر عن أسرار الخلق والتكوين، وكيف خلق الله الكون، وكيف يديره.
الشخصيات الرئيسية
يتضمن سفر أخنوخ الثالث العديد من الشخصيات الهامة، منها:
- الحاخام إسماعيل: هو الشخصية الرئيسية في السفر، والراوي الذي يصف رحلته إلى السماء ورؤاه.
- متاترون: هو الملاك الرئيسي في السفر، ويُعتبر بمثابة المرشد والمعلم للحاخام إسماعيل. يتم تصوير متاترون على أنه ملاك قوي وحكيم، وهو حامل أسرار الإله.
- الملائكة الآخرون: يذكر السفر العديد من الملائكة الآخرين بأسمائهم وصفاتهم، مثل ميخائيل، وجبرائيل، ورفائيل.
الأهمية الدينية والتاريخية
يحظى سفر أخنوخ الثالث بأهمية كبيرة في الدراسات الدينية والتاريخية لعدة أسباب:
- نافذة على الفكر الديني اليهودي المبكر: يقدم السفر نافذة على الفكر الديني اليهودي المبكر، خاصة فيما يتعلق بالتصوف والغنوصية.
- مصدر للمفاهيم القبالية: يعتبر السفر مصدرًا هامًا للمفاهيم القبالية، مثل فكرة القصور السماوية، والملائكة، والعرش الإلهي.
- تأثير على الأدب الديني اللاحق: أثر السفر على الأدب الديني اللاحق، بما في ذلك الأدب القبالي والأدب المسيحي المنحول.
- فهم التطورات اللاهوتية: يساعد السفر على فهم التطورات اللاهوتية في اليهودية القديمة، وكيف تطورت المفاهيم الدينية مع مرور الوقت.
مفهوم متاترون في سفر أخنوخ الثالث
أحد أهم المفاهيم في سفر أخنوخ الثالث هو مفهوم متاترون. يعتبر متاترون ملاكًا ذا مكانة فريدة، حيث يوصف بأنه “الأصغر” بين الملائكة ولكنه الأقرب إلى الله. يوضح السفر أن متاترون كان في الأصل النبي أخنوخ، الذي رفعه الله إلى السماء وحوله إلى ملاك. يمتلك متاترون العديد من الوظائف الهامة، بما في ذلك:
- كاتب الله: يسجل متاترون أعمال البشر ويقدمها إلى الله.
- المعلم والمرشد: يرشد متاترون الأبرار ويساعدهم على الوصول إلى الله.
- المحامي: يدافع متاترون عن إسرائيل أمام الله.
يُعتبر متاترون شخصية معقدة ومتعددة الأوجه، وقد أثارت العديد من المناقشات والتفسيرات بين العلماء والباحثين. يرى البعض أن متاترون يمثل وسيطًا بين الله والبشر، بينما يرى آخرون أنه تجسيد للحكمة الإلهية.
علاقة سفر أخنوخ الثالث بالقبالة
يرتبط سفر أخنوخ الثالث ارتباطًا وثيقًا بالقبالة، وهي مدرسة فكرية يهودية صوفية ظهرت في العصور الوسطى. يعتبر السفر مصدرًا هامًا للعديد من المفاهيم والمصطلحات القبالية، مثل:
- شجرة الحياة: تصف شجرة الحياة عشرة سفيروت (انبعاثات إلهية) تمثل جوانب مختلفة من الله.
- القصور السماوية: تصف القصور السماوية مستويات مختلفة من الوجود الروحي.
- أسماء الله: تستخدم أسماء الله المختلفة للتأمل والتواصل مع الإله.
يعتبر القباليون سفر أخنوخ الثالث نصًا مقدسًا ومصدرًا للإلهام الروحي. يستخدمون السفر لدراسة أسرار الكون والإله، وللتواصل مع الملائكة والشخصيات السماوية.
الاختلافات بين سفر أخنوخ الثالث والأسفار الأخرى
يختلف سفر أخنوخ الثالث عن الأسفار الأخرى المنسوبة إلى أخنوخ، مثل سفر أخنوخ الأول وسفر أخنوخ الثاني، في عدة جوانب:
- اللغة: كُتب سفر أخنوخ الثالث باللغة العبرية، بينما كُتب سفر أخنوخ الأول باللغة الآرامية.
- المحتوى: يركز سفر أخنوخ الثالث على رؤى الحاخام إسماعيل وصعوده إلى السماء، بينما يركز سفر أخنوخ الأول على نبوءات أخنوخ وعقاب الأشرار.
- الشخصيات: يلعب متاترون دورًا رئيسيًا في سفر أخنوخ الثالث، بينما لا يذكر في سفر أخنوخ الأول.
على الرغم من هذه الاختلافات، تشترك جميع الأسفار المنسوبة إلى أخنوخ في بعض السمات المشتركة، مثل الاهتمام بالملائكة والسماوات والأسرار الإلهية.
التفسيرات الحديثة
في العصر الحديث، حظي سفر أخنوخ الثالث باهتمام متزايد من قبل العلماء والباحثين في مجالات الدراسات الدينية والتاريخية. يحاول الباحثون فهم السياق التاريخي والثقافي الذي نشأ فيه السفر، وتحديد مصادره وتأثيراته، وتقييم أهميته في تاريخ الفكر الديني اليهودي.
يستخدم بعض الباحثين أساليب التحليل اللغوي والتاريخي والأدبي لدراسة السفر، بينما يستخدم آخرون أساليب التحليل النفسي والاجتماعي لفهم معانيه ورموزه. تهدف هذه الدراسات إلى إلقاء الضوء على جوانب مختلفة من السفر، مثل مفهوم متاترون، وعلاقته بالقبالة، وتأثيره على الأدب الديني اللاحق.
خاتمة
سفر أخنوخ الثالث هو نص ديني يهودي قديم وغني بالمفاهيم التصوفية والخيالية. يقدم السفر رؤى فريدة عن الملائكة والسماوات والعرش الإلهي، ويعتبر مصدرًا هامًا لفهم التطورات اللاهوتية في اليهودية القديمة. على الرغم من أن السفر ليس جزءًا من الكتاب المقدس، إلا أنه يحظى بأهمية كبيرة في الدراسات الدينية والتاريخية، وقد أثر على الأدب الديني اللاحق، بما في ذلك الأدب القبالي.