مقدمة
الكتاب الأبيض لباسفيلد، الذي صدر في 20 أكتوبر 1930، من قبل وزير المستعمرات اللورد باسفيلد (سيدني ويب)، كان بيانًا رسميًا لسياسة الحكومة البريطانية فيما يتعلق بفلسطين الانتدابية. جاء الكتاب الأبيض استجابةً لتقرير لجنة شو، التي تم تشكيلها للتحقيق في أعمال الشغب الفلسطينية عام 1929. كان الهدف المعلن للكتاب الأبيض هو توضيح سياسة الحكومة بشأن الهجرة اليهودية وشراء الأراضي في فلسطين، بهدف تهدئة التوترات بين العرب واليهود.
خلفية تاريخية
منذ وعد بلفور عام 1917، الذي أعلن عن تأييد الحكومة البريطانية لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، شهدت المنطقة تدفقًا متزايدًا من المهاجرين اليهود. أثار هذا التدفق قلقًا متزايدًا بين السكان العرب الفلسطينيين، الذين رأوا في الهجرة اليهودية تهديدًا لهويتهم الثقافية والاقتصادية والسياسية. تصاعدت التوترات بين العرب واليهود، وبلغت ذروتها في أعمال شغب واسعة النطاق عام 1929، والتي أسفرت عن مقتل وإصابة المئات من الجانبين.
بعد أعمال الشغب، شكلت الحكومة البريطانية لجنة شو للتحقيق في أسباب العنف واقتراح حلول. توصلت اللجنة إلى أن أحد الأسباب الرئيسية لعدم الاستقرار هو الغموض الذي يكتنف سياسة الحكومة بشأن الهجرة اليهودية وشراء الأراضي. أوصت اللجنة بوضع سياسة أكثر وضوحًا ومحددة لضمان حماية حقوق ومصالح جميع السكان في فلسطين.
أهم بنود الكتاب الأبيض لباسفيلد
تضمن الكتاب الأبيض لباسفيلد عدة بنود رئيسية تهدف إلى تنظيم الهجرة اليهودية وشراء الأراضي، وتحديد سلطات الحكم الذاتي الفلسطيني. يمكن تلخيص هذه البنود في النقاط التالية:
- الهجرة اليهودية: نص الكتاب الأبيض على أن الهجرة اليهودية إلى فلسطين يجب أن تكون منظمة وأن تخضع للقدرة الاقتصادية للبلاد على استيعاب المهاجرين الجدد. وأشار إلى أنه يجب ألا تتسبب الهجرة في حرمان السكان العرب من فرص العمل أو الأراضي.
- شراء الأراضي: وضع الكتاب الأبيض قيودًا على شراء اليهود للأراضي في فلسطين، بهدف حماية الفلاحين العرب من التشرد. نص الكتاب على أنه يجب حماية حقوق الفلاحين الذين يعتمدون على الزراعة لكسب رزقهم، وأنه لا يجوز السماح بشراء الأراضي إذا كان ذلك سيؤدي إلى تشريدهم.
- الحكم الذاتي الفلسطيني: دعا الكتاب الأبيض إلى تطوير مؤسسات الحكم الذاتي في فلسطين، بهدف تمكين السكان العرب من المشاركة في إدارة شؤونهم الخاصة. وأشار إلى أن الحكومة البريطانية ملتزمة بتطوير نظام حكم تمثيلي يضمن مشاركة جميع السكان في الحكم.
- توضيح وعد بلفور: سعى الكتاب الأبيض إلى توضيح تفسير الحكومة البريطانية لوعد بلفور، مؤكدًا أن إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين لا يعني إقامة دولة يهودية بالكامل، وأن حقوق السكان العرب يجب أن تكون محمية.
ردود الفعل على الكتاب الأبيض
أثار الكتاب الأبيض لباسفيلد ردود فعل متباينة من مختلف الأطراف المعنية. فقد استقبل العرب الفلسطينيون الكتاب بترحاب حذر، معتبرين أنه خطوة أولى نحو حماية حقوقهم ومصالحهم. ومع ذلك، فقد انتقدوا الكتاب لعدم تلبية جميع مطالبهم، وخاصة فيما يتعلق بوقف الهجرة اليهودية بشكل كامل.
من ناحية أخرى، أثار الكتاب الأبيض غضبًا شديدًا في الأوساط الصهيونية، التي اعتبرته تراجعًا عن وعد بلفور وتقويضًا لمشروعهم الوطني في فلسطين. اتهم القادة الصهاينة الحكومة البريطانية بالخضوع للضغوط العربية والتخلي عن التزاماتها تجاه الحركة الصهيونية.
داخل بريطانيا، أثار الكتاب الأبيض جدلاً واسعًا. انتقد بعض السياسيين والمفكرين البريطانيين الكتاب، معتبرين أنه غير عادل تجاه اليهود ويضر بمصالح بريطانيا في الشرق الأوسط. في المقابل، دافع آخرون عن الكتاب، معتبرين أنه ضروري للحفاظ على السلام والاستقرار في فلسطين.
التعديلات اللاحقة وسحب الكتاب الأبيض
نتيجة للضغوط الشديدة من الحركة الصهيونية وبعض الأوساط السياسية البريطانية، اضطرت الحكومة البريطانية إلى إجراء تعديلات على الكتاب الأبيض لباسفيلد في عام 1931. تضمنت هذه التعديلات تخفيف القيود المفروضة على الهجرة اليهودية وشراء الأراضي.
في عام 1939، أصدرت الحكومة البريطانية كتابًا أبيض جديدًا، عُرف بالكتاب الأبيض لماكدونالد، والذي تضمن سياسات أكثر تقييدًا للهجرة اليهودية وشراء الأراضي. اعتبر الكتاب الأبيض لماكدونالد بمثابة تراجع كامل عن وعد بلفور، وأثار غضبًا شديدًا في الأوساط الصهيونية.
تأثير الكتاب الأبيض على القضية الفلسطينية
على الرغم من أنه تم تعديل الكتاب الأبيض لباسفيلد لاحقًا، إلا أنه كان له تأثير كبير على القضية الفلسطينية. فقد كشف الكتاب عن التناقضات الكامنة في السياسة البريطانية تجاه فلسطين، وأظهر أن الحكومة البريطانية كانت تسعى جاهدة لتحقيق التوازن بين مصالح العرب واليهود، وهو الأمر الذي ثبت أنه مستحيل.
ساهم الكتاب الأبيض في زيادة التوتر بين العرب واليهود، وعزز من شعور الفلسطينيين بأن حقوقهم يتم تجاهلها. كما أدى الكتاب إلى تعزيز الحركة الوطنية الفلسطينية، التي بدأت تطالب بالاستقلال التام عن بريطانيا.
يمكن القول أن الكتاب الأبيض لباسفيلد كان بمثابة علامة فارقة في تاريخ القضية الفلسطينية، حيث كشف عن تعقيدات الصراع وأظهر أن الحل العادل يتطلب تلبية حقوق ومصالح جميع الأطراف المعنية.
دروس مستفادة من الكتاب الأبيض
يمكن استخلاص العديد من الدروس من تجربة الكتاب الأبيض لباسفيلد، والتي يمكن أن تكون ذات صلة بالصراعات المماثلة في مناطق أخرى من العالم. من بين هذه الدروس:
- أهمية فهم السياق التاريخي: يجب فهم السياق التاريخي لأي صراع قبل محاولة إيجاد حل له. في حالة فلسطين، كان من الضروري فهم تاريخ العلاقات بين العرب واليهود، وتأثير وعد بلفور على المنطقة.
- ضرورة تحقيق التوازن بين المصالح المتضاربة: يجب أن يهدف أي حل عادل إلى تحقيق التوازن بين المصالح المتضاربة لجميع الأطراف المعنية. في حالة فلسطين، كان من الضروري إيجاد حل يضمن حقوق العرب واليهود على حد سواء.
- أهمية الشفافية والمشاركة: يجب أن يكون أي حل شفافًا وأن يشارك فيه جميع الأطراف المعنية. في حالة فلسطين، كان من الضروري إشراك الفلسطينيين في المفاوضات المتعلقة بمستقبل بلادهم.
- الحاجة إلى حلول مستدامة: يجب أن تكون الحلول مستدامة وقادرة على الصمود في وجه التحديات المستقبلية. في حالة فلسطين، كان من الضروري إيجاد حل يضمن السلام والاستقرار على المدى الطويل.
خاتمة
يمثل الكتاب الأبيض لباسفيلد محاولة من الحكومة البريطانية للتعامل مع التوترات المتزايدة في فلسطين الانتدابية. على الرغم من أنه لم ينجح في تحقيق السلام الدائم، إلا أنه يسلط الضوء على التحديات المعقدة التي تواجهها القوى الاستعمارية عند محاولة التوفيق بين المصالح المتضاربة. يبقى الكتاب الأبيض وثيقة تاريخية مهمة لفهم جذور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المستمر.