نشأته وتعليمه
ولد محمد الصالح هارون في مدينة أَبِيشِي، وهي مدينة تاريخية تقع في شرق تشاد. نشأ في بيئة ثقافية غنية، لكنها عانت أيضاً من ويلات الحرب الأهلية والصراعات القبلية. أثرت هذه التجارب المبكرة بشكل كبير على رؤيته الفنية واهتمامه بقضايا العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. بعد أن ترك تشاد بسبب الحرب، انتقل هارون إلى فرنسا حيث درس السينما في معهد الدراسات السينمائية العليا (Institut des Hautes Études Cinématographiques – IDHEC) في باريس. هذا المعهد يعتبر من أعرق مدارس السينما في فرنسا، وقد ساهم في تكوين جيل كامل من المخرجين الفرنسيين والأجانب.
مسيرته المهنية
بدأ محمد الصالح هارون مسيرته المهنية في مجال السينما كمساعد مخرج ومصور سينمائي، قبل أن يبدأ في إخراج أفلامه الخاصة. فيلمه الأول كان فيلمًا وثائقيًا قصيرًا بعنوان “الرجل العائد” (Le Chauffeur de Taxi) في عام 1991، والذي تناول حياة سائق سيارة أجرة في باريس. هذا الفيلم كان بمثابة نقطة انطلاق لمسيرته المهنية، حيث لفت انتباه النقاد والجمهور إلى موهبته وقدرته على سرد القصص بأسلوب مؤثر.
في عام 1994، أخرج هارون فيلمه الروائي الطويل الأول بعنوان “باي باي أفريكا” (Bye Bye Africa). يعتبر هذا الفيلم شبه سيرة ذاتية، حيث يتناول قصة مخرج تشادي يعود إلى بلاده بعد سنوات من الغياب، ويواجه صعوبات في التكيف مع الواقع الجديد. حقق الفيلم نجاحًا كبيرًا على المستوى النقدي، وفاز بجائزة أفضل فيلم في مهرجان البندقية السينمائي.
بعد “باي باي أفريكا”، واصل هارون إخراج العديد من الأفلام الروائية والوثائقية التي نالت استحسان النقاد وفازت بالعديد من الجوائز. من بين أبرز أفلامه:
- أبونا (Abouna): فيلم روائي صدر عام 2002، يتناول قصة أخوين صغيرين يبحثان عن والدهما الذي اختفى فجأة. يعتبر الفيلم من أفضل أفلام هارون، وقد فاز بجائزة أفضل فيلم في مهرجان كارتاخينا السينمائي.
- دارات (Daratt): فيلم روائي صدر عام 2006، يتناول قصة شاب يتيم يسعى للانتقام من قاتل والده. يتميز الفيلم بأسلوبه البصري الجميل وقصته المؤثرة، وقد فاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان البندقية السينمائي.
- رجل يصرخ (A Screaming Man): فيلم روائي صدر عام 2010، يتناول قصة رجل يضطر إلى ترك وظيفته كحارس حمام سباحة لابنه، ثم يجبر على الانضمام إلى الجيش لمحاربة المتمردين. فاز الفيلم بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي.
- جريجري (Grigris): فيلم روائي صدر عام 2013، يتناول قصة شاب معاق يحلم بأن يصبح راقصًا. يتميز الفيلم بأسلوبه البصري الجميل وموسيقى تصويرية رائعة.
- موسم في فرنسا (A Season in France): فيلم روائي صدر عام 2017، يتناول قصة لاجئ من جمهورية أفريقيا الوسطى يعيش في فرنسا ويواجه صعوبات في الحصول على الإقامة.
- لينغوي، الروابط المقدسة (Lingui, the Sacred Bonds): فيلم روائي صدر عام 2021، يتناول قصة أم عزباء تسعى جاهدة لإجهاض ابنتها المراهقة، وتواجه معارضة من المجتمع.
أسلوبه السينمائي
يتميز أسلوب محمد الصالح هارون السينمائي بالبساطة والواقعية. يعتمد على التصوير الطبيعي والإضاءة الواقعية، ويتجنب المؤثرات الخاصة والمبالغات الدرامية. يركز على الشخصيات الإنسانية وقصصهم المؤثرة، ويسعى إلى تصوير الواقع التشادي والإفريقي بكل تعقيداته وتناقضاته. كما يهتم هارون بقضايا الهوية والذاكرة والانتماء، ويعكس في أفلامه تجربته الشخصية كتشادي يعيش في المنفى.
تتميز أفلام هارون أيضًا بشاعريتها ورهافة حسها. يستخدم الموسيقى بشكل فعال لخلق جو من الحزن والشوق، ويولي اهتمامًا كبيرًا بالتفاصيل الصغيرة التي تعكس ثقافة وتراث تشاد. كما يعتمد على لغة الجسد والإيماءات للتعبير عن المشاعر والأفكار، مما يجعل أفلامه مفهومة ومؤثرة حتى بالنسبة للجمهور الذي لا يتحدث اللغة العربية أو الفرنسية.
بالإضافة إلى ذلك، يتميز هارون بجرأته في تناول القضايا السياسية والاجتماعية الحساسة. ينتقد الفساد والاستبداد والظلم الاجتماعي، ويدافع عن حقوق الإنسان وحرية التعبير. كما يسعى إلى تصوير صورة إيجابية عن أفريقيا، بعيدًا عن الصور النمطية السلبية التي غالبًا ما تظهر في وسائل الإعلام الغربية.
الجوائز والتكريمات
حصل محمد الصالح هارون على العديد من الجوائز والتكريمات عن أفلامه، من بينها:
- جائزة أفضل فيلم في مهرجان البندقية السينمائي عن فيلم “باي باي أفريكا” (1994).
- جائزة أفضل فيلم في مهرجان كارتاخينا السينمائي عن فيلم “أبونا” (2002).
- جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان البندقية السينمائي عن فيلم “دارات” (2006).
- جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي عن فيلم “رجل يصرخ” (2010).
- جائزة أفضل مخرج في مهرجان دبي السينمائي الدولي عن فيلم “جريجري” (2013).
- وسام جوقة الشرف من الحكومة الفرنسية (2011).
تعتبر هذه الجوائز والتكريمات اعترافًا بموهبة هارون وإسهامه في السينما العالمية. كما أنها تعكس أهمية القضايا التي يتناولها في أفلامه، والتي تلامس قلوب المشاهدين في جميع أنحاء العالم.
تأثيره على السينما الأفريقية
يعتبر محمد الصالح هارون من أبرز المخرجين الأفارقة الذين ساهموا في تطوير السينما الأفريقية ورفع مستوى الوعي بها على المستوى العالمي. ألهم العديد من المخرجين الشباب في أفريقيا، وساعد في خلق جيل جديد من السينمائيين الذين يتناولون قضايا مجتمعاتهم بجرأة وإبداع.
كما ساهم هارون في تغيير الصورة النمطية السلبية عن أفريقيا في السينما العالمية. قدم صورة أكثر واقعية وتعقيدًا عن القارة، وأظهر قدرة السينمائيين الأفارقة على إنتاج أفلام عالية الجودة تتناول قضايا إنسانية عالمية.
بالإضافة إلى ذلك، لعب هارون دورًا هامًا في دعم السينما التشادية وتطويرها. ساهم في إنشاء صندوق لدعم الإنتاج السينمائي في تشاد، وساعد في تدريب جيل جديد من السينمائيين التشاديين.
خاتمة
محمد الصالح هارون هو مخرج سينمائي تشادي موهوب ومبدع، يعتبر من أبرز المخرجين الأفارقة المعاصرين. اشتهر بأفلامه التي تتناول قضايا اجتماعية وسياسية وإنسانية عميقة، مستوحاة من تجربته الشخصية وتاريخ بلاده المضطرب. ساهم في تطوير السينما الأفريقية ورفع مستوى الوعي بها على المستوى العالمي، وألهم العديد من المخرجين الشباب في أفريقيا. يعتبر هارون رمزًا للأمل والإبداع في أفريقيا، ومصدر فخر للشعب التشادي.