مقدمة
الشيوعية اليسارية هي تيار داخل الحركة الشيوعية نشأ في الجناح اليساري للأحزاب المنضوية في الأممية الشيوعية. تتميز الشيوعية اليسارية بانتقادها الشديد للمواقف السياسية التي تبنتها الأحزاب الشيوعية الرئيسية، خاصة تلك المتعلقة بالمشاركة في البرلمانات والنقابات العمالية، فضلاً عن تكتيك الجبهة الموحدة. يرى الشيوعيون اليساريون أن هذه التكتيكات تمثل انحرافًا عن المبادئ الثورية وتساهم في إدماج الطبقة العاملة في النظام الرأسمالي.
الأصول الفكرية
تعود جذور الشيوعية اليسارية إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى والثورة الروسية. فقد شهدت هذه الفترة صعودًا للحركات العمالية الثورية في العديد من البلدان الأوروبية، مثل ألمانيا وهولندا وإيطاليا. وفي الوقت نفسه، ظهرت خلافات داخل الحركة الشيوعية حول الاستراتيجية والتكتيكات المناسبة لتحقيق الثورة الاشتراكية. انتقد الشيوعيون اليساريون، مثل أنطون بانهوك وهيرمان جورتر وأماديو بورديجا، التوجهات البراغماتية التي تبنتها القيادة البلشفية في روسيا، معتبرين أنها تخفف من حدة الصراع الطبقي وتقوض الطابع الثوري للحركة الشيوعية.
الخصائص الرئيسية
تتميز الشيوعية اليسارية بعدة خصائص رئيسية، من بينها:
- معارضة المشاركة في البرلمانات: يرفض الشيوعيون اليساريون المشاركة في الانتخابات البرلمانية، معتبرين أن البرلمانات هي مؤسسات برجوازية تهدف إلى الحفاظ على النظام الرأسمالي. وهم يرون أن المشاركة في البرلمانات تساهم في إضفاء الشرعية على هذا النظام وتشتت انتباه الطبقة العاملة عن النضال الثوري.
- معارضة النقابات العمالية التقليدية: ينتقد الشيوعيون اليساريون النقابات العمالية التقليدية، معتبرين أنها أصبحت جزءًا من النظام الرأسمالي وتعمل على تنظيم الصراع الطبقي بدلاً من إلغائه. وهم يدعون إلى إنشاء منظمات عمالية ثورية جديدة تتجاوز حدود النقابات التقليدية وتركز على النضال المباشر ضد الرأسمالية.
- رفض تكتيك الجبهة الموحدة: يعارض الشيوعيون اليساريون تكتيك الجبهة الموحدة، الذي يدعو إلى التعاون مع الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والأحزاب العمالية الأخرى. وهم يرون أن هذا التكتيك يؤدي إلى تخفيف حدة النقد الموجه إلى هذه الأحزاب وتشويه الوعي الثوري للطبقة العاملة.
- التأكيد على النضال الطبقي المباشر: يؤكد الشيوعيون اليساريون على أهمية النضال الطبقي المباشر، مثل الإضرابات والمظاهرات والاحتلالات، كوسيلة لتحقيق الثورة الاشتراكية. وهم يرون أن هذه الأشكال من النضال تساهم في تطوير الوعي الثوري للطبقة العاملة وتقويض سلطة الدولة الرأسمالية.
- الدعوة إلى إلغاء الدولة: يهدف الشيوعيون اليساريون إلى إلغاء الدولة واستبدالها بنظام شيوعي لا طبقي ولا سلطوي. وهم يرون أن الدولة هي أداة قمع طبقي يجب تدميرها من أجل تحقيق التحرر الكامل للإنسانية.
أبرز الشخصيات والمجموعات
فيما يلي قائمة بأبرز الشخصيات والمجموعات التي تنتمي إلى التيار الشيوعي اليساري:
- أنطون بانهوك (Anton Pannekoek): منظّر هولندي ماركسي، كان من أبرز منتقدي البلشفية والنقابات العمالية التقليدية.
- هيرمان جورتر (Herman Gorter): شاعر ومنظّر هولندي ماركسي، شارك في تأسيس الحزب الشيوعي العمالي الألماني.
- أمديو بورديجا (Amadeo Bordiga): منظّر إيطالي ماركسي، أسس الحزب الشيوعي الإيطالي، لكنه طُرد منه لاحقًا بسبب مواقفه اليسارية المتطرفة.
- روزا لوكسمبورغ (Rosa Luxemburg): منظرة بولندية ألمانية ماركسية، انتقدت التحريفية في الاشتراكية الديمقراطية، ولكنها أيضًا انتقدت بعض جوانب البلشفية. (مع أن روزا لوكسمبورغ لم تكن شيوعية يسارية بالمعنى الدقيق للكلمة، إلا أن أفكارها أثرت بشكل كبير على هذا التيار).
- كارل ليبكنخت (Karl Liebknecht): سياسي ألماني اشتراكي، شارك مع روزا لوكسمبورغ في تأسيس عصبة سبارتاكوس والحزب الشيوعي الألماني. (كما هو الحال مع لوكسمبورغ، لم يكن ليبكنخت شيوعيًا يساريًا تمامًا، ولكنه كان شخصية مؤثرة في تطور هذا التيار).
- الحزب الشيوعي العمالي الألماني (KAPD): حزب شيوعي ألماني تأسس عام 1920، تبنى مواقف يسارية متطرفة ورفض المشاركة في البرلمانات والنقابات العمالية التقليدية.
- التيار الشيوعي الأممي (ICC): منظمة شيوعية يسارية عالمية تأسست عام 1975، تتبنى مواقف مماثلة لمواقف الحزب الشيوعي العمالي الألماني.
انتقادات الشيوعية اليسارية
تعرضت الشيوعية اليسارية للعديد من الانتقادات، من بينها:
- العزلة عن الطبقة العاملة: يرى منتقدو الشيوعية اليسارية أن مواقفها المتطرفة أدت إلى عزلتها عن الطبقة العاملة وجعلت من الصعب عليها بناء قاعدة جماهيرية واسعة.
- الدوغماتية والجمود الفكري: يتهم منتقدو الشيوعية اليسارية هذا التيار بالدوغماتية والجمود الفكري، حيث يرفض الشيوعيون اليساريون أي تغيير أو تعديل في مواقفهم ومبادئهم، حتى في ظل الظروف المتغيرة.
- التقليل من أهمية النضال الإصلاحي: يرى منتقدو الشيوعية اليسارية أن هذا التيار يقلل من أهمية النضال الإصلاحي، مثل النضال من أجل تحسين الأجور وظروف العمل، ويركز بشكل حصري على الثورة الاشتراكية.
- عدم الواقعية: يرى الكثيرون أن أهداف الشيوعية اليسارية غير واقعية، خاصة فيما يتعلق بإلغاء الدولة واستبدالها بنظام شيوعي لا سلطوي.
تأثير الشيوعية اليسارية
على الرغم من الانتقادات الموجهة إليها، فقد كان للشيوعية اليسارية تأثير كبير على الحركة الشيوعية والحركات الاجتماعية الأخرى. فقد ساهمت الشيوعية اليسارية في تطوير نظرية الماركسية وتوسيع نطاقها، كما أنها ألهمت العديد من النشطاء والمنظمات الثورية حول العالم. بالإضافة إلى ذلك، لعبت الشيوعية اليسارية دورًا مهمًا في نقد النزعات السلطوية والبيروقراطية في الحركة الشيوعية.
الشيوعية اليسارية اليوم
لا تزال الشيوعية اليسارية موجودة حتى اليوم، على الرغم من أنها تيار هامشي نسبيًا. وتوجد العديد من المنظمات والمجموعات التي تتبنى مواقف شيوعية يسارية في مختلف أنحاء العالم. وتواصل هذه المنظمات والمجموعات النضال من أجل تحقيق الثورة الاشتراكية وإلغاء الرأسمالية.
خاتمة
الشيوعية اليسارية هي تيار فكري وسياسي نشأ داخل الحركة الشيوعية، يتميز بانتقاده الشديد للمواقف السياسية التي تبنتها الأحزاب الشيوعية الرئيسية. على الرغم من الانتقادات الموجهة إليها، فقد كان للشيوعية اليسارية تأثير كبير على الحركة الشيوعية والحركات الاجتماعية الأخرى، ولا تزال موجودة حتى اليوم.