النمط الأول: النمط التقليدي (Mode 1)
يعتبر النمط التقليدي، أو النمط الأول، من أقدم أنماط إنتاج المعرفة. يتميز هذا النمط بتركيزه على المعرفة الأكاديمية التي يتم إنتاجها داخل الجامعات والمؤسسات البحثية. في هذا النمط، غالباً ما تكون المعرفة موجهة نحو الاهتمامات الداخلية للمجتمع العلمي، مع تركيز أقل على التطبيقات العملية أو التأثير المباشر على المجتمع الأوسع. يتم تقييم المعرفة في هذا النمط من خلال عملية مراجعة الأقران، وتعتبر المنشورات العلمية في المجلات الأكاديمية المرموقة هي المعيار الأساسي للتقييم.
- الخصائص الرئيسية:
- التركيز على البحث الأساسي.
- الإنتاج داخل المؤسسات الأكاديمية.
- التقييم من خلال مراجعة الأقران.
- الاستقلالية عن القوى الخارجية مثل الصناعة أو السياسة.
- المساهمات: قدم النمط الأول الأساس المتين للمعرفة العلمية، وأسس للعديد من الاكتشافات والاختراعات.
- القيود: قد يكون بطيئاً في الاستجابة للاحتياجات المجتمعية، ويركز غالباً على التخصصات الضيقة، مما قد يعيق التفاعل بين التخصصات المختلفة.
النمط الثاني: النمط المنظم (Mode 2)
ظهر النمط الثاني من إنتاج المعرفة استجابة لتغيرات اجتماعية واقتصادية متزايدة في القرن العشرين. يتميز هذا النمط بالتركيز على المعرفة التي يتم إنتاجها في سياقات تطبيقية، مع مشاركة أوسع من مختلف الجهات الفاعلة، بما في ذلك الصناعة والحكومة والمجتمع المدني. المعرفة في هذا النمط غالباً ما تكون متعددة التخصصات، وتنتج لحل مشاكل محددة، وتعتبر الأهمية الاجتماعية والعملية للمعرفة من العوامل الأساسية في تقييمها.
- الخصائص الرئيسية:
- السياقية (تُنتج في سياقات تطبيقية).
- متعددة التخصصات.
- تشارك فيها جهات فاعلة متنوعة.
- التركيز على الأهمية الاجتماعية.
- المساهمات: ساهم النمط الثاني في تطوير تقنيات جديدة، وحلول للمشاكل الاجتماعية، وتعزيز التعاون بين الأوساط الأكاديمية والصناعة.
- القيود: قد يواجه صعوبة في الحفاظ على الاستقلالية والنزاهة العلمية بسبب الضغوط الخارجية، وربما يعطي الأولوية للمصالح الاقتصادية على حساب البحث الأساسي.
التحول نحو أنماط جديدة
شهدت العقود الأخيرة ظهور أنماط جديدة من إنتاج المعرفة، متأثرة بالتطورات التكنولوجية والاجتماعية المتسارعة. هذه الأنماط الجديدة غالباً ما تجمع بين خصائص النمطين الأول والثاني، مع التأكيد على التعاون والابتكار المفتوح والمشاركة المجتمعية. تشمل هذه الأنماط:
- العلوم المفتوحة: وهي حركة تهدف إلى جعل البحوث العلمية وبياناتها متاحة للجميع.
- الابتكار المفتوح: وهو نموذج يعتمد على التعاون مع جهات خارجية لتبادل الأفكار والتقنيات.
- العلوم المواطنية: والتي تشمل المواطنين في عمليات البحث العلمي.
التأثيرات والتحديات
لأنماط إنتاج المعرفة تأثيرات كبيرة على المجتمع. فهي تؤثر على:
- التعليم: كيف يتم تدريس العلوم وتطوير المناهج الدراسية.
- الابتكار: دفع عجلة التطور التكنولوجي والاقتصادي.
- السياسة العامة: توجيه القرارات المتعلقة بالصحة والبيئة والعدالة الاجتماعية.
في الوقت نفسه، تواجه أنماط إنتاج المعرفة تحديات متعددة. وتشمل هذه التحديات:
- التمويل: الحصول على التمويل الكافي للبحوث، خاصةً في المجالات التي لا تحظى بالأولوية.
- الأخلاقيات: التعامل مع القضايا الأخلاقية المتعلقة بالبحوث، مثل استخدام التكنولوجيا الحيوية.
- التواصل: نشر المعرفة العلمية بطريقة يمكن للجمهور العام فهمها.
التعاون بين الأنماط
من المهم ملاحظة أن الأنماط المختلفة لإنتاج المعرفة ليست بالضرورة متعارضة. في الواقع، فإن التعاون والتكامل بين هذه الأنماط يمكن أن يؤدي إلى نتائج أفضل. على سبيل المثال، يمكن للتعاون بين الباحثين في الجامعات (النمط الأول) وشركات التكنولوجيا (النمط الثاني) أن يؤدي إلى تطوير تقنيات جديدة وحلول للمشاكل الاجتماعية. يتطلب هذا التعاون إنشاء بيئات مناسبة للتبادل المعرفي، مثل المراكز البحثية المشتركة، وشبكات التعاون، والمنصات الرقمية.
دور التكنولوجيا
تلعب التكنولوجيا دوراً حاسماً في تحويل أنماط إنتاج المعرفة. إن الإنترنت، والحوسبة السحابية، والبيانات الضخمة، والذكاء الاصطناعي، وغيرها من التقنيات الجديدة، توفر أدوات جديدة لإنتاج المعرفة، وتسهل التعاون، وتنشر المعرفة على نطاق واسع. على سبيل المثال، يمكن للباحثين استخدام منصات التعاون عبر الإنترنت لتبادل البيانات والأفكار، ويمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد في تحليل كميات هائلة من البيانات واستخلاص الأنماط والاتجاهات. ومع ذلك، يجب التعامل مع هذه التكنولوجيا بحذر، مع مراعاة قضايا مثل الخصوصية، والأمن السيبراني، والتحيز الخوارزمي.
أخلاقيات إنتاج المعرفة
مع تطور أنماط إنتاج المعرفة، تزداد أهمية الأخلاقيات. يجب على الباحثين والعلماء والمؤسسات البحثية الالتزام بمبادئ أخلاقية صارمة، مثل:
- النزاهة العلمية: الالتزام بالصدق والدقة في جميع جوانب البحث، بما في ذلك جمع البيانات وتحليلها ونشرها.
- الشفافية: الإفصاح عن مصادر التمويل وتعارض المصالح، وجعل البيانات والنتائج متاحة للجمهور.
- المسؤولية الاجتماعية: النظر في الآثار الاجتماعية المحتملة للبحوث، وتجنب إلحاق الضرر بالآخرين.
أهمية التنوع والتعددية
من الضروري تعزيز التنوع والتعددية في أنماط إنتاج المعرفة. هذا يشمل:
- التنوع الجغرافي: دعم البحوث في مختلف أنحاء العالم، وتعزيز التعاون بين الباحثين من مختلف البلدان.
- التنوع الجنساني: زيادة تمثيل النساء في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM).
- التنوع الثقافي: احترام وتقدير المعارف والخبرات المتنوعة من مختلف الثقافات.
إن تعزيز التنوع والتعددية يمكن أن يؤدي إلى رؤى جديدة وحلول مبتكرة للمشاكل العالمية.
مستقبل أنماط إنتاج المعرفة
من المتوقع أن يستمر تطور أنماط إنتاج المعرفة في المستقبل. قد نشهد:
- زيادة في التعاون: بين الجامعات والصناعة والحكومة والمجتمع المدني.
- تزايد دور التكنولوجيا: في تسهيل البحث والابتكار.
- تركيز أكبر على الاستدامة: والبحث عن حلول للمشاكل البيئية والاجتماعية.
- زيادة في مشاركة المواطنين: في عمليات البحث العلمي.
خاتمة
أنماط إنتاج المعرفة تتغير باستمرار، وتتأثر بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية. من خلال فهم هذه الأنماط، يمكننا أن نساهم في تطوير نظام معرفي أكثر فعالية وإنصافاً، يعزز الابتكار ويخدم المجتمع. إن التعاون بين الأنماط المختلفة، وتعزيز التنوع، والالتزام بالأخلاقيات، هي المفاتيح لتحقيق هذا الهدف. يجب علينا أيضاً أن نتبنى التكنولوجيا، ونستخدمها بحكمة لتحسين إنتاج المعرفة ونشرها.
المراجع
- Gibbons, M., Limoges, C., Nowotny, H., Schwartzman, S., Scott, P., & Trow, M. (1994). The new production of knowledge: The dynamics of science and research in contemporary societies. SAGE.
- Nowotny, H., Scott, P., & Gibbons, M. (2001). Rethinking science: Knowledge and the public in an age of uncertainty. Polity.
- National Research Council. (2002). Science and technology for America’s progress: Ensuring the best in science and technology. National Academies Press.
- European Commission. (2007). The new mode of knowledge production and its relevance for European science and technology policy.
“`