أصول العُشر وتطوره
تعود جذور نظام العُشر إلى العصور القديمة، حيث كانت بعض الحضارات القديمة تفرض ضرائب مماثلة لدعم المعابد والكهنة. في العالم المسيحي، بدأ مفهوم العُشر في الانتشار خلال العصور الوسطى، استنادًا إلى تعاليم الكتاب المقدس، وخاصة العهد القديم، حيث ورد ذكر العشور كواجب ديني. تبنى الكنيسة الكاثوليكية هذا المفهوم تدريجيًا، وأصبح العُشر جزءًا لا يتجزأ من نظامها المالي.
في إسبانيا، بدأ تطبيق العُشر في عهد الملوك القوطيين، وتطور تدريجيًا خلال فترة الحكم الإسلامي (الأندلس)، حيث تأثر تطبيقه بالأنظمة الضريبية الإسلامية. بعد استعادة الأراضي الإسبانية من المسلمين (الاسترداد)، أُعيد تأكيد العُشر كجزء أساسي من هيكل الكنيسة والمجتمع. منح الملوك الإسبان الكنيسة الحق في جمع العُشر، وأصبحت الكنيسة أكبر مالك للأراضي وأكثر المؤسسات نفوذًا في البلاد.
آلية جمع العُشر وتوزيعه
كان جمع العُشر عملية معقدة ومنظمة. كان على المزارعين والفلاحين دفع عُشر محاصيلهم ومنتجاتهم الزراعية، مثل الحبوب والخضروات والفواكه، وكذلك عُشر حيواناتهم، مثل الأبقار والأغنام والدواجن. بالإضافة إلى ذلك، كان على التجار والصناع دفع جزء من أرباحهم. كان يتم تحديد قيمة العُشر بناءً على تقدير المحصول والمكاسب، وكان يتم تحصيله من قبل جامعي الضرائب التابعين للكنيسة.
بعد جمع العُشر، كان يتم توزيعه وفقًا لتقسيمات معينة. كان جزء كبير منه يذهب إلى الأسقفية لدعم الأنشطة الدينية والإدارية، مثل بناء الكنائس والأديرة وتوفير الرواتب للكهنة والرهبان. كان جزء آخر يخصص لرعاية الفقراء والمرضى، وبناء المستشفيات والملاجئ. كما كان جزء صغير يذهب إلى روما لدعم البابوية.
تأثير العُشر على الاقتصاد والمجتمع
كان للعُشر تأثير كبير على الاقتصاد والمجتمع الإسباني. فقد وفر للكنيسة موارد مالية ضخمة مكنتها من بناء الكنائس والأديرة الفخمة، ورعاية التعليم والثقافة. كما ساهم في توفير الخدمات الاجتماعية، مثل الرعاية الصحية والإغاثة من الفقر.
ومع ذلك، كان للعُشر أيضًا جوانب سلبية. فقد أثقل كاهل الفلاحين والفقراء، وأدى إلى استنزاف مواردهم. كما أدى إلى نشوء بعض مظاهر الفساد، حيث كان بعض جامعي الضرائب يستغلون مناصبهم لتحقيق مكاسب شخصية. بالإضافة إلى ذلك، أدى العُشر إلى تركيز الثروة في يد الكنيسة، مما أثر على التوازن الاجتماعي والاقتصادي.
العُشر والإصلاح الديني
شهد نظام العُشر بعض التعديلات والتغييرات خلال فترة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر. في ظل الإصلاح البروتستانتي، تم رفض العُشر في العديد من البلدان الأوروبية، حيث اعتبروه نظامًا فاسدًا وغير كتابي. في إسبانيا، حاولت الكنيسة الكاثوليكية الحفاظ على نظام العُشر، لكنها اضطرت إلى إجراء بعض الإصلاحات للتخفيف من حدة انتقاداته.
في عهد الملك فيليب الثاني، تم سن بعض القوانين التي تهدف إلى تنظيم عملية جمع العُشر والحد من الفساد. كما تم تخصيص جزء أكبر من العُشر لرعاية الفقراء والمرضى. ومع ذلك، استمر نظام العُشر في إثارة الجدل والانتقادات.
العُشر في إمبراطورية إسبانيا
لم يقتصر تطبيق نظام العُشر على إسبانيا نفسها، بل امتد ليشمل إمبراطوريتها الواسعة، بما في ذلك المستعمرات في الأمريكتين وآسيا. في المستعمرات، كان العُشر يمثل جزءًا أساسيًا من النظام الاقتصادي. كان على السكان الأصليين والمستعمرين دفع عُشر إنتاجهم الزراعي والمعدني للكنيسة. استخدمت الكنيسة هذه الموارد لتمويل بناء الكنائس والأديرة والمدارس، وتقديم الخدمات الدينية والاجتماعية.
كان للعُشر في المستعمرات تأثير مماثل لتأثيره في إسبانيا. فقد ساهم في بناء المؤسسات الدينية والتعليمية، لكنه أثقل كاهل السكان الأصليين والفقراء، وأدى إلى تفاقم الاستغلال والظلم. في بعض الأحيان، كان يتم استخدام العُشر كأداة للسيطرة على السكان الأصليين وقمع معارضتهم.
نهاية العُشر
بدأت نهاية نظام العُشر في إسبانيا خلال القرن التاسع عشر، بالتزامن مع التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها البلاد. مع صعود الليبرالية وتراجع نفوذ الكنيسة، بدأت الحكومة في تقليص دور الكنيسة في الشؤون العامة. تم تقليص العُشر تدريجيًا، وإعادة توجيه بعض موارده إلى الدولة.
خلال عهد إيزابيل الثانية، تم إلغاء العُشر بشكل نهائي في عام 1845. تم تعويض الكنيسة عن خسائرها من خلال تخصيص جزء من ميزانية الدولة لدعمها. كان إلغاء العُشر بمثابة علامة فارقة في تاريخ إسبانيا، حيث أدى إلى تعزيز فصل الدين عن الدولة، وتعزيز دور الدولة في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية.
إرث العُشر
ترك نظام العُشر إرثًا طويل الأمد في إسبانيا وإمبراطوريتها. فقد ساهم في بناء العديد من الكنائس والأديرة والمدارس والمستشفيات، والتي لا تزال قائمة حتى اليوم كشواهد على التاريخ. كما ترك بصمة على الثقافة والفنون الإسبانية، حيث ألهم العديد من الأعمال الفنية والأدبية.
بالإضافة إلى ذلك، أثر العُشر على تطور المؤسسات الدينية والاجتماعية في إسبانيا. فقد ساهم في تشكيل دور الكنيسة في المجتمع، وتعزيز قيم الإحسان والرحمة. كما ساهم في تطوير بعض الممارسات الاقتصادية والإدارية.
ومع ذلك، ترك العُشر أيضًا إرثًا من الجدل والانتقادات. فقد أثارت عملية جمع العُشر العديد من المشاكل، وظل موضوعًا مثيرًا للجدل حتى بعد إلغائه. أدت مساوئ النظام إلى تأجيج الصراعات الاجتماعية والسياسية، وساهمت في تراجع نفوذ الكنيسة.
العُشر في العصر الحديث
على الرغم من إلغائه في إسبانيا، لا يزال العُشر يمارس في بعض المجتمعات المسيحية في جميع أنحاء العالم. في بعض الكنائس البروتستانتية والإنجيلية، يعتبر العُشر واجبًا دينيًا، ويُحث المؤمنون على دفع 10% من دخلهم للكنيسة. تُستخدم هذه الأموال لدعم الأنشطة الدينية والخيرية.
في العصر الحديث، اختلف مفهوم العُشر عن شكله التقليدي. لم يعد يُنظر إليه بالضرورة كضريبة إجبارية، بل كعمل تطوعي يعبر عن الإيمان والعطاء. يعتمد تطبيق العُشر في العصر الحديث على رؤية الكنيسة واحتياجاتها، ويختلف من طائفة إلى أخرى.
خاتمة
كان العُشر نظامًا ضريبيًا كنسيًا إجباريًا لعب دورًا حاسمًا في تاريخ إسبانيا وإمبراطوريتها. على الرغم من أنه وفر موارد مالية ضخمة للكنيسة وساهم في بناء المؤسسات الدينية والاجتماعية، إلا أنه أثقل كاهل الفلاحين والفقراء وأدى إلى بعض مظاهر الفساد. إلغاء العُشر في عهد إيزابيل الثانية كان بمثابة تحول هام في تاريخ إسبانيا، وأسهم في تعزيز فصل الدين عن الدولة. على الرغم من انتهاء تطبيقه في إسبانيا، لا يزال مفهوم العُشر يمارس في بعض المجتمعات المسيحية في جميع أنحاء العالم كرمز للعطاء والإيمان.
المراجع
- موسوعة بريتانيكا – مقال عن العُشر
- موقع هيستوري – مقالات عن العُشر
- موقع ورلد هيستوري – مقال عن العُشر
- الموسوعة الكاثوليكية الجديدة – مقال عن العُشر
“`