نشأته وتعليمه
ولد صمويل أورتون في جزيرة رام، مينيسوتا، الولايات المتحدة الأمريكية. تلقى تعليمه في جامعة آيوا، حيث حصل على درجة البكالوريوس في عام 1901 ودرجة الدكتوراه في الطب في عام 1907. بعد ذلك، أجرى تدريباً في علم الأمراض في مستشفى جامعة آيوا، ثم انضم إلى هيئة التدريس في الجامعة. خلال هذه الفترة، طور اهتمامًا بالاضطرابات العصبية، مما دفعه إلى إجراء المزيد من الدراسات والبحث في هذا المجال.
مسيرته المهنية
بدأ أورتون مسيرته المهنية كعالم في علم الأمراض، ولكن اهتمامه بدأ يتحول نحو دراسة الاضطرابات العصبية والسلوكية. عمل في مستشفى جامعة آيوا، حيث أجرى أبحاثًا مكثفة حول إصابات الدماغ. خلال الحرب العالمية الأولى، خدم كطبيب نفسي في الجيش الأمريكي، مما منحه خبرة إضافية في التعامل مع مجموعة متنوعة من الحالات العصبية والنفسية. أسس أورتون عيادة لعلاج الأطفال في ولاية آيوا، حيث بدأ في ملاحظة أن بعض الأطفال يواجهون صعوبة في تعلم القراءة والكتابة، على الرغم من ذكائهم الطبيعي.
أبحاثه حول عسر القراءة
كانت أهم مساهمات أورتون في دراسة عسر القراءة. لاحظ أورتون أن الأطفال الذين يعانون من هذه الصعوبة غالبًا ما يعكسون الحروف والكلمات، أي يقرأونها أو يكتبونها بشكل معكوس (مثل “ب” بدلاً من “د”). أطلق أورتون على هذه الحالة اسم “الاستعصاء اللفظي” (Strephosymbolia)، مشيرًا إلى صعوبة معالجة الرموز اللغوية.أدرك أورتون أن هذه المشكلة لم تكن مجرد مشكلة في الرؤية، بل كانت مشكلة في معالجة المعلومات اللغوية في الدماغ.
قام أورتون بإجراء أبحاث مكثفة على أدمغة الأشخاص الذين يعانون من عسر القراءة. استخدم طرقًا مختلفة، بما في ذلك تشريح ما بعد الوفاة للدماغ. اكتشف أن أدمغة الأشخاص المصابين بعسر القراءة غالبًا ما تظهر اختلافات طفيفة في التماثل بين نصفي الكرة المخية، خاصة في المناطق المسؤولة عن اللغة. افترض أورتون أن هذه الاختلافات قد تؤدي إلى صعوبة في تنسيق عمل نصفي الكرة المخية أثناء معالجة اللغة، مما يؤثر على القدرة على القراءة والكتابة.
المنهج متعدد الحسّيات
بالإضافة إلى فهمه الأساسي لاضطراب عسر القراءة، طور أورتون أيضًا أساليب علاجية. اقترح استخدام منهج متعدد الحسّيات لتعليم الأطفال المصابين بعسر القراءة. يعتمد هذا المنهج على استخدام حواس متعددة (البصر والسمع واللمس والحركة) لتعليم القراءة والكتابة. على سبيل المثال، قد يطلب من الطفل تتبع الحروف بأصابعه، أو كتابة الحروف في الرمال، أو ربط الحروف بالأصوات. اعتقد أورتون أن هذا النهج يساعد على تعزيز الاتصالات العصبية في الدماغ، مما يسهل تعلم القراءة والكتابة.
إسهاماته في التعليم الخاص
ساهمت أبحاث أورتون بشكل كبير في تطوير مجال التعليم الخاص. ساعدت أفكاره حول عسر القراءة على زيادة الوعي بهذه الحالة وتوفير الدعم اللازم للأطفال الذين يعانون منها.أسس أورتون، بالتعاون مع آنا غيلينغهام، أول منهج منظم لتعليم القراءة والكتابة للأطفال المصابين بعسر القراءة. يُعرف هذا المنهج باسم منهج أورتون-غيلينغهام، ولا يزال يستخدم على نطاق واسع حتى اليوم. يوفر هذا المنهج إطارًا تعليميًا مفصلاً يركز على التدريس المنظم والمتعدد الحسّيات. يركز هذا المنهج على تعليم الأصوات والكلمات والحروف في سياق عملي.
تأثير أفكاره على فهم الدماغ
أدت أبحاث أورتون إلى تغيير جذري في فهمنا للدماغ والتعلم. قدم دليلًا على أن الدماغ ليس مجرد جهاز واحد، بل يتكون من مناطق متخصصة تؤدي وظائف محددة. ساعدت أعماله على إبراز أهمية الروابط العصبية بين هذه المناطق في عملية التعلم. كما ساعدت على توضيح العلاقة المعقدة بين اللغة والدماغ.
أكدت أبحاث أورتون على أهمية التشخيص المبكر والتدخل المبكر للأطفال الذين يعانون من صعوبات التعلم. أظهر أن التدخل المبكر يمكن أن يحسن بشكل كبير فرص هؤلاء الأطفال في النجاح الأكاديمي. أدت أفكاره إلى تطوير أدوات وتقنيات تقييمية جديدة لتحديد الأطفال الذين يعانون من عسر القراءة في وقت مبكر. علاوة على ذلك، شجعت أورتون على تطوير برامج تدريب المعلمين المتخصصة في تعليم الأطفال المصابين بصعوبات التعلم.
التحديات والاعتراف
واجهت أبحاث أورتون بعض التحديات في البداية. لم يكن مفهوم صعوبات التعلم معروفًا على نطاق واسع في ذلك الوقت، وتُركت أفكاره غالبًا في دائرة الجدل. ومع ذلك، بدأ الاعتراف بأهمية عمله يزداد مع مرور الوقت. حصل على تقدير كبير من قبل زملائه وأقرانه في مجال علم النفس العصبي والتعليم الخاص. تأسست جمعية القراءة الدولية (International Reading Association) في عام 1956، تكريماً لإرثه وجهوده.
إرثه
يُعتبر صمويل أورتون أحد الرواد في دراسة صعوبات التعلم. لقد أحدثت أبحاثه ثورة في فهمنا لعسر القراءة وتأثيره على الدماغ. أدت أفكاره إلى تغيير طريقة تعليم الأطفال الذين يعانون من صعوبات في القراءة والكتابة. لا يزال إرثه مستمرًا في التأثير على ممارسات التدريس والتقييم والبحث في مجال التعليم الخاص. أثر عمل أورتون على حياة آلاف الأطفال وساعدهم على تحقيق إمكاناتهم الكاملة.
أهمية أعماله
تكمن أهمية أعمال أورتون في أنه لم يصف فقط صعوبة القراءة، بل قدم تفسيرًا علميًا لها. اقترح أن عسر القراءة ناتج عن اختلافات في طريقة معالجة الدماغ للمعلومات. هذا الفهم، إلى جانب تطويره لمنهج متعدد الحسّيات، قدم الأساس لتطوير استراتيجيات فعالة لمساعدة الأطفال المصابين بعسر القراءة. كان أورتون رائدًا في البحث عن طرق لتقديم الدعم المناسب للأطفال الذين يعانون من صعوبات التعلم، مما ساعد على تحسين نوعية حياتهم.
التطورات اللاحقة في مجال البحث
استمرت الأبحاث في مجال صعوبات التعلم في التطور بعد وفاة أورتون. استندت العديد من الدراسات اللاحقة إلى أعماله، مستكشفة المزيد من التفاصيل حول الأسباب العصبية لعسر القراءة. ساعدت التطورات في تقنيات التصوير العصبي (مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي) الباحثين على رؤية الدماغ أثناء العمل، مما أتاح لهم فهمًا أفضل لكيفية معالجة الأشخاص المصابين بعسر القراءة للمعلومات. أدت هذه التطورات إلى تطوير علاجات وتقنيات تعليمية جديدة، مثل استخدام التكنولوجيا لمساعدة الأطفال على القراءة.
العلاجات الحديثة
تعتمد العلاجات الحديثة لعسر القراءة بشكل كبير على المبادئ التي وضعها أورتون. تركز العلاجات على استخدام منهج متعدد الحسّيات، وتوفير تعليمات مكثفة ومنظمة. غالبًا ما تتضمن العلاجات استخدام برامج الكمبيوتر والبرامج التعليمية لمساعدة الأطفال على تحسين مهارات القراءة. يركز التدخل المبكر على تحديد الأطفال الذين يعانون من عسر القراءة في أقرب وقت ممكن وتقديم الدعم المناسب لهم. هناك أيضًا علاجات متخصصة تساعد على تحسين الوعي الصوتي، وهو القدرة على التعرف على أصوات الكلام الفردية، والتي تعتبر ضرورية للقراءة.
التعليم والتدريب
تلعب المعرفة والتدريب دورًا حاسمًا في مساعدة الأطفال المصابين بعسر القراءة. يجب أن يكون المعلمون على دراية بعسر القراءة وكيفية التعرف عليه وعلاجه. توفر العديد من الجامعات برامج تدريب متخصصة في تعليم الأطفال المصابين بصعوبات التعلم. يتضمن هذا التدريب تعليم تقنيات التقييم وتصميم خطط التدريس الفعالة. تساهم هذه البرامج في ضمان حصول الأطفال المصابين بعسر القراءة على الدعم الذي يحتاجونه لتحقيق النجاح الأكاديمي.
المنهج أورتون-غيلينغهام اليوم
لا يزال منهج أورتون-غيلينغهام يستخدم على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم. إنه منهج منظم ومتعدد الحسّيات يعتمد على تعليم الأصوات والحروف والكلمات. يركز المنهج على التدريس المباشر والمنظم والمتعدد الحسّيات، مما يساعد الأطفال على تطوير مهارات القراءة والكتابة. يعتبر هذا المنهج فعالاً بشكل خاص للأطفال الذين يعانون من عسر القراءة، وقد ساعدهم على تحسين قدراتهم على القراءة والكتابة بشكل كبير.
دعم المجتمع والأسرة
يلعب دعم المجتمع والأسرة دورًا مهمًا في مساعدة الأطفال المصابين بعسر القراءة. يجب على الآباء والمربين العمل معًا لتوفير بيئة داعمة ومحفزة للأطفال. يمكن للمجموعات المجتمعية توفير الدعم والموارد للآباء والأطفال، بما في ذلك خدمات التقييم والعلاج والتعليم. يمكن للدعم الأسري القوي أن يساعد الأطفال على بناء الثقة بالنفس وتحقيق النجاح الأكاديمي. بالإضافة إلى ذلك، من المهم تثقيف المجتمع حول عسر القراءة للتخلص من المفاهيم الخاطئة وتعزيز التفاهم.
نظرة مستقبلية
يستمر البحث في مجال صعوبات التعلم في التطور. تركز الأبحاث المستقبلية على تحديد الأسباب العصبية والوراثية لعسر القراءة، وتطوير علاجات و تقنيات تعليمية جديدة. من المتوقع أن تلعب التكنولوجيا دورًا أكبر في مساعدة الأطفال المصابين بعسر القراءة. هناك اهتمام متزايد بتقديم الدعم والتعليم في وقت مبكر، حتى يتمكن الأطفال من تحقيق إمكاناتهم الكاملة. تهدف هذه الجهود إلى توفير عالم أكثر إنصافًا وشمولية للأطفال المصابين بصعوبات التعلم.
خاتمة
صمويل أورتون هو شخصية مهمة في تاريخ دراسة صعوبات التعلم، وخاصة عسر القراءة. قدم أورتون مساهمات كبيرة في فهمنا لهذه الحالة وتطوير طرق علاجية فعالة. من خلال أبحاثه، اكتشف الاختلافات في أدمغة الأشخاص المصابين بعسر القراءة و طور منهجًا تعليميًا متعدد الحسّيات لا يزال يستخدم حتى اليوم. ساعد عمله على تغيير طريقة تعاملنا مع صعوبات التعلم وتحسين حياة آلاف الأطفال. لا يزال إرثه مستمرًا في التأثير على مجال التعليم الخاص والبحث العلمي، مما يضمن استمرار الجهود لتحسين حياة الأطفال المصابين بصعوبات التعلم.
المراجع
- The Orton-Gillingham Academy: Samuel Orton’s Life and Work
- Encyclopedia Britannica: Samuel Torrey Orton
- LDA Today: Samuel Torrey Orton, M.D.: The Father of Dyslexia
- Reading Rockets: Samuel Torrey Orton
“`