خلفية تاريخية
شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تحولات كبيرة في المشهد الاقتصادي والفكري. كان الاقتصاد الكلي الكينزي هو المهيمن، مع تركيزه على تدخل الحكومة لإدارة الطلب الكلي وتحقيق الاستقرار الاقتصادي. في المقابل، كان هناك عدد متزايد من الاقتصاديين الذين شككوا في فعالية التدخل الحكومي ودافعوا عن دور أكبر للسوق الحرة. في هذا السياق، قدم فريدمان وزملاؤه رؤية بديلة للاقتصاد.
كان فريدمان، وهو أستاذ في جامعة شيكاغو، شخصية رئيسية في صعود مدرسة شيكاغو للاقتصاد، والتي أكدت على أهمية الأسواق الحرة والحد من التدخل الحكومي. اعتمد عمل فريدمان على التفكير التجريبي، مع التركيز على اختبار النظريات الاقتصادية باستخدام البيانات الواقعية. رفض فريدمان النهج المعياري للاقتصاد، والذي ركز على ما “يجب أن يكون”، وبدلاً من ذلك تبنى نهجًا إيجابيًا يهدف إلى وصف وتفسير كيفية عمل الاقتصاد بالفعل.
الرؤية الأساسية للكتاب
يكمن جوهر حجج فريدمان في “مقالات في الاقتصاد الإيجابي” في التمييز بين الاقتصاد الإيجابي والاقتصاد المعياري. الاقتصاد الإيجابي، وفقًا لفريدمان، هو فرع الاقتصاد الذي يتعامل مع ما هو كائن. يهدف إلى تطوير نظريات يمكن اختبارها وتنبؤات يمكن التحقق منها حول سلوك الظواهر الاقتصادية. الاقتصاد الإيجابي هو علم، يجب أن يعتمد على الملاحظة التجريبية والتحليل المنطقي. الاقتصاد المعياري، من ناحية أخرى، يتعامل مع ما ينبغي أن يكون. يتضمن أحكام قيمة حول أهداف السياسة الاقتصادية وأفضل السبل لتحقيقها.
جادل فريدمان بأن التمييز بين الاقتصاد الإيجابي والمعياري أمر بالغ الأهمية. أولاً، لأن الاقتصاد الإيجابي يوفر الأساس للتحليل المعياري. يجب أن يعتمد تحليل السياسات على فهم واضح لكيفية عمل الاقتصاد. ثانيًا، لأن الاقتصاد الإيجابي يسمح بإجراء مناقشات أكثر موضوعية وعلمية حول القضايا الاقتصادية. من خلال التركيز على اختبار النظريات، يمكن للاقتصاديين تقليل تأثير التحيزات الشخصية والقيم الذاتية على عملهم.
المساهمات الرئيسية للكتاب
قدم كتاب “مقالات في الاقتصاد الإيجابي” العديد من المساهمات الرئيسية في الفكر الاقتصادي. من بينها:
- منهجية الاقتصاد الإيجابي: قدم فريدمان رؤية واضحة لمنهجية الاقتصاد الإيجابي، مع التأكيد على أهمية اختبار النظريات باستخدام البيانات الواقعية. جادل بأن النظريات الاقتصادية يجب أن تُقيَّم بناءً على قدرتها على التنبؤ، وليس بناءً على واقعية افتراضاتها.
- نظرية الربح: في مقال بعنوان “طبيعة ووظيفة الرأسمالية”، يدرس فريدمان دور الربح في نظام السوق. يجادل بأن الربح هو آلية أساسية لتخصيص الموارد وتحفيز الابتكار. فهو يشير إلى أن الأرباح المرتفعة تجذب الشركات إلى الصناعات التي يطلبها المستهلكون، بينما تشير الخسائر إلى أن الموارد يتم تخصيصها بشكل غير فعال.
- المرونة والقدرة على التكيف: يشدد فريدمان على أهمية المرونة والقدرة على التكيف في الاقتصاد. يعتقد أن الاقتصادات يجب أن تكون قادرة على التكيف مع التغيرات في الظروف، وأن تدخل الحكومة يمكن أن يعيق هذه القدرة على التكيف.
- الاقتصاد النقدي: يشتمل الكتاب على مقالات تناقش الاقتصاد النقدي، وهي دراسة تأثير المعروض النقدي على الاقتصاد. يرى فريدمان أن المعروض النقدي هو عامل حاسم في تحديد مستوى النشاط الاقتصادي والتضخم.
تأثير الكتاب
كان لكتاب “مقالات في الاقتصاد الإيجابي” تأثير عميق على الفكر الاقتصادي والممارسة العملية. أثرت أفكار فريدمان على جيل كامل من الاقتصاديين، بمن فيهم الحائزون على جائزة نوبل مثل غاري بيكر وميلتون فريدمان نفسه. ساعد الكتاب في إحياء الاهتمام بالأسواق الحرة والحد من تدخل الحكومة. كما ساهم في صعود مدرسة شيكاغو للاقتصاد، والتي أصبحت قوة مهيمنة في الاقتصاد الأكاديمي.
علاوة على ذلك، أثرت أفكار فريدمان على السياسات الاقتصادية في جميع أنحاء العالم. على سبيل المثال، أيد فريدمان سياسات السوق الحرة في تشيلي في عهد بينوشيه. كما أيد سياسات خفض الضرائب وإلغاء القيود في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. كما لعب دوراً مهماً في صياغة سياسات التحرير الاقتصادي في العديد من البلدان النامية.
الانتقادات الموجهة للكتاب
على الرغم من تأثيره الكبير، لم يسلم كتاب “مقالات في الاقتصاد الإيجابي” من الانتقادات. تعرضت منهجية فريدمان لانتقادات بسبب تركيزه على اختبار النظريات بناءً على قدرتها على التنبؤ، بغض النظر عن واقعية افتراضاتها. يرى بعض النقاد أن هذا النهج يمكن أن يؤدي إلى قبول نظريات غير صحيحة، طالما أنها تتنبأ بدقة بالنتائج. كما اتُهم فريدمان بإفراط في تبسيط القضايا الاقتصادية المعقدة.
كما تعرضت أفكار فريدمان حول السياسات الاقتصادية لانتقادات. على سبيل المثال، اتُهم بتجاهل الآثار الاجتماعية والبيئية للأسواق الحرة. كما تعرض لانتقادات بسبب دعمه لسياسات التقشف التي أدت إلى تفاقم عدم المساواة في الدخل في بعض البلدان. على الرغم من هذه الانتقادات، لا يزال عمل فريدمان يحتل مكانة مهمة في الفكر الاقتصادي.
أهمية الكتاب اليوم
لا يزال كتاب “مقالات في الاقتصاد الإيجابي” ذا صلة كبيرة اليوم. في عالم يتسم بالعولمة المتزايدة والتغيرات التكنولوجية السريعة، هناك حاجة متزايدة لفهم واضح لكيفية عمل الاقتصاد. يوفر الكتاب إطارًا قيمًا لتحليل القضايا الاقتصادية وتشكيل السياسات. كما أن أفكار فريدمان حول دور الأسواق الحرة والحد من تدخل الحكومة لا تزال ذات صلة، خاصة في عصر تتزايد فيه الدعوات إلى تدخل حكومي أكبر.
علاوة على ذلك، يمكن أن تساعد منهجية فريدمان في الاقتصاد الإيجابي في تعزيز المناقشات الاقتصادية الأكثر موضوعية وعلمية. من خلال التركيز على اختبار النظريات، يمكن للاقتصاديين تقليل تأثير التحيزات الشخصية والقيم الذاتية على عملهم. في عالم مليء بالمعلومات المضللة، يعد هذا أمرًا بالغ الأهمية.
خاتمة
يظل كتاب “مقالات في الاقتصاد الإيجابي” لميلتون فريدمان عملًا كلاسيكيًا في الاقتصاد. قدم الكتاب مساهمات كبيرة في منهجية علم الاقتصاد، ونظرية الربح، والاقتصاد النقدي. كان للكتاب تأثير عميق على الفكر الاقتصادي والممارسة العملية، وأثرت أفكاره على جيل كامل من الاقتصاديين وصناع السياسات. على الرغم من بعض الانتقادات، لا يزال الكتاب ذا صلة كبيرة اليوم، ويوفر إطارًا قيمًا لتحليل القضايا الاقتصادية وتشكيل السياسات. يذكرنا الكتاب بأهمية فهم كيفية عمل الاقتصاد فعليًا، وليس فقط كيفية اعتقادنا أنه يجب أن يعمل.
المراجع
- Friedman, Milton. (1953). Essays in Positive Economics. University of Chicago Press.
- The Editors of Encyclopaedia Britannica. (n.d.). Milton Friedman. Encyclopedia Britannica.
- The Nobel Prize in Economic Sciences 1976. (n.d.). Milton Friedman. NobelPrize.org.
- Stigler, George J. (2008). Friedman, Milton (1912–2006). The Concise Encyclopedia of Economics.