خلفية تاريخية
في أواخر الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، واجهت الكنيسة الأنجليكانية سلسلة من التحديات والانقسامات الداخلية. كان أحد أهم هذه القضايا هو قرار الكنيسة الأسقفية الأمريكية بالموافقة على رسامة المرأة كقساوسة وشمامسة. أثار هذا القرار جدلاً واسعًا داخل الكنيسة الأنجليكانية، حيث اعترض عليه العديد من المحافظين الذين تمسكوا بالتفسير التقليدي للكتاب المقدس ورفضوا تغيير التقاليد الكنسية. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك مخاوف بشأن التوجهات الليبرالية في اللاهوت، والتي اعتبرها البعض تهديدًا للإيمان الأرثوذكسي.
تراكمت هذه العوامل، مما أدى إلى شعور متزايد بالقلق والإحباط بين بعض الأنجليكان المحافظين، الذين شعروا بأنهم مهمشون داخل كنائسهم. وقد أدى هذا الشعور إلى الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي لمناقشة هذه القضايا وتحديد مسار بديل للحفاظ على الإيمان التقليدي. وهكذا، ولد مؤتمر سانت لويس.
أهداف المؤتمر
حدد مؤتمر سانت لويس عدة أهداف رئيسية:
- توحيد المحافظين: كان أحد الأهداف الرئيسية للمؤتمر هو توحيد الأنجليكان المحافظين من جميع أنحاء العالم في مواجهة التغيرات اللاهوتية والطقسية.
- إعادة التأكيد على العقيدة التقليدية: سعى المؤتمر إلى إعادة التأكيد على أهمية العقيدة الأرثوذكسية والإيمان التقليدي، ورفض التوجهات الليبرالية التي اعتبروها تتعارض مع الكتاب المقدس.
- تأسيس كيان كنسي بديل: نظرًا لأن العديد من المشاركين في المؤتمر شعروا بعدم الارتياح تجاه مسار الكنائس الأنجليكانية الموجودة، فقد سعوا إلى تأسيس كيان كنسي بديل للحفاظ على الإيمان التقليدي.
- الحفاظ على الوحدة: على الرغم من الاختلافات في وجهات النظر، سعى المؤتمر إلى الحفاظ على وحدة الأنجليكان المحافظين وتعزيز التعاون فيما بينهم.
أحداث المؤتمر
شهد مؤتمر سانت لويس سلسلة من الجلسات والمناقشات التي تناولت مجموعة واسعة من القضايا اللاهوتية والكنسية. كان من أبرز أحداث المؤتمر:
- المناقشات اللاهوتية: ألقى العديد من المتحدثين محاضرات وعروضًا حول قضايا مثل طبيعة الكتاب المقدس، وعقيدة الثالوث، والتجسد، والفداء.
- المداولات الكنسية: ناقش المشاركون قضايا مثل رسامة المرأة، والليتورجيا، والوحدة الكنسية.
- إعلان سانت لويس: كان أهم ما توصل إليه المؤتمر هو إعلان سانت لويس، وهو بيان لاهوتي حدد فيه المشاركون إيمانهم وموقفهم من القضايا الخلافية.
- إنشاء الكنيسة الأنجليكانية البروتستانتية في أمريكا الشمالية (ACNA): في نهاية المؤتمر، اتخذ المشاركون قرارًا تاريخيًا بإنشاء كنيسة أنجليكانية جديدة في أمريكا الشمالية، وهي الكنيسة الأنجليكانية البروتستانتية في أمريكا الشمالية (ACNA)، كبديل للكنيسة الأسقفية الأمريكية.
إعلان سانت لويس
كان إعلان سانت لويس هو الوثيقة المركزية التي انبثقت عن المؤتمر. وهو بمثابة بيان إيمان يعبر عن موقف الأنجليكان المحافظين من القضايا اللاهوتية والكنسية الرئيسية. أكد الإعلان على:
- أهمية الكتاب المقدس: أكد الإعلان على أن الكتاب المقدس هو كلمة الله الموحى بها، وأنه السلطة العليا في كل ما يتعلق بالإيمان والسلوك.
- العقيدة التقليدية: أعاد الإعلان التأكيد على أهمية العقيدة التقليدية التي وردت في المجامع المسكونية وفي كتاب الصلاة المشترك.
- الرفض رسامة المرأة: رفض الإعلان رسامة المرأة كقساوسة وشمامسة، معتبرًا أن هذا يتعارض مع الكتاب المقدس والتقاليد الكنسية.
- الالتزام بالوحدة الكنسية: أكد الإعلان على أهمية الوحدة الكنسية، ولكنه أشار إلى أنه لا يمكن تحقيق هذه الوحدة على حساب العقيدة الأرثوذكسية.
كان إعلان سانت لويس بمثابة الأساس الذي قامت عليه الكنيسة الأنجليكانية البروتستانتية في أمريكا الشمالية (ACNA)، ولا يزال له تأثير كبير على الأنجليكان المحافظين في جميع أنحاء العالم.
تأسيس الكنيسة الأنجليكانية البروتستانتية في أمريكا الشمالية (ACNA)
كان تأسيس الكنيسة الأنجليكانية البروتستانتية في أمريكا الشمالية (ACNA) أحد أهم نتائج مؤتمر سانت لويس. تأسست ACNA ككنيسة بديلة للكنيسة الأسقفية الأمريكية، والتي اعتبرها المشاركون في المؤتمر قد انحرفت عن الإيمان التقليدي. تهدف ACNA إلى:
- الحفاظ على الإيمان الأرثوذكسي: تلتزم ACNA بالإيمان الأرثوذكسي كما هو موضح في الكتاب المقدس والعقائد التاريخية للكنيسة.
- الالتزام بالطقوس الأنجليكانية: تستخدم ACNA الطقوس الأنجليكانية التقليدية، بما في ذلك كتاب الصلاة المشترك.
- التبشير والإنجيل: تكرس ACNA نفسها للتبشير والإنجيل، وتسعى إلى نشر رسالة الإنجيل في جميع أنحاء العالم.
- الوحدة الكنسية: تسعى ACNA إلى الوحدة الكنسية مع الكنائس الأنجليكانية الأخرى في جميع أنحاء العالم التي تشترك في نفس الإيمان والتقاليد.
نما عدد أعضاء ACNA بشكل كبير منذ تأسيسها، وهي الآن واحدة من أكبر الكنائس الأنجليكانية في العالم. تلعب ACNA دورًا مهمًا في الحفاظ على الإيمان الأنجليكاني التقليدي وتعزيز الوحدة الكنسية.
التأثير والنتائج
ترك مؤتمر سانت لويس تأثيرًا كبيرًا على الكنيسة الأنجليكانية على المستويين الإقليمي والعالمي. من أبرز هذه التأثيرات والنتائج:
- انقسام الكنيسة الأنجليكانية: أدى المؤتمر إلى انقسام في الكنيسة الأنجليكانية، حيث انفصل الأنجليكان المحافظون عن الكنائس الليبرالية لتشكيل كنائس جديدة، مثل ACNA.
- إعادة تعريف الأنجليكانية: ساهم المؤتمر في إعادة تعريف الأنجليكانية كحركة عالمية تضم طوائف مختلفة، تتشارك في الإيمان والتقاليد المشتركة.
- صعود الحركة المحافظة: عزز المؤتمر صعود الحركة المحافظة داخل الكنيسة الأنجليكانية، مما أدى إلى زيادة التركيز على الإيمان التقليدي والكتاب المقدس.
- تأثير على الكنائس الأخرى: كان للمؤتمر تأثير على الكنائس الأخرى، حيث ألهم الحركات المحافظة في الطوائف المسيحية الأخرى.
- الحوار المسكوني: على الرغم من الانقسامات، ساهم المؤتمر في تعزيز الحوار المسكوني بين الأنجليكان المحافظين والكنائس المسيحية الأخرى التي تشترك في نفس الإيمان.
الأهمية التاريخية
يعد مؤتمر سانت لويس حدثًا تاريخيًا هامًا في تاريخ الكنيسة الأنجليكانية. فقد شكل نقطة تحول رئيسية في تطورها، وأدى إلى تغييرات كبيرة في هيكلها وممارساتها. كان للمؤتمر تأثير دائم على الأنجليكانية، ولا يزال يمثل مصدر إلهام للأنجليكان المحافظين في جميع أنحاء العالم. يعكس المؤتمر الصراع المستمر داخل الكنيسة الأنجليكانية بين التمسك بالإيمان التقليدي والتكيف مع التغيرات في العالم الحديث.
بالإضافة إلى ذلك، يمثل مؤتمر سانت لويس مثالاً على كيفية قيام المؤمنين بالعمل معًا للدفاع عن إيمانهم، وكيف يمكن للقادة الدينيين أن يلعبوا دورًا في تشكيل الأحداث التاريخية. يذكرنا هذا المؤتمر بأهمية الحوار والوحدة في مواجهة التحديات، وأهمية الحفاظ على التراث الروحي.
الخلافات والتحديات
على الرغم من أهميته التاريخية، لم يكن مؤتمر سانت لويس خاليًا من الخلافات والتحديات. انتقد البعض المشاركين في المؤتمر لإنشائهم كيانًا كنسيًا منفصلًا، معتبرين أن ذلك يضعف الوحدة الكنسية. اعتبر آخرون أن رد فعل المؤتمر على التغيرات في الكنيسة الأنجليكانية كان مبالغًا فيه وغير ضروري. ومع ذلك، يظل مؤتمر سانت لويس حدثًا تاريخيًا مهمًا، وأحد أهم معالم تطور الأنجليكانية في القرن العشرين. ولا تزال القضايا التي أثارها المؤتمر تهم الأنجليكان في جميع أنحاء العالم حتى يومنا هذا.
من التحديات التي واجهها المؤتمر:
- الخلافات حول رسامة المرأة: كان الخلاف حول رسامة المرأة لا يزال يمثل قضية رئيسية، مما أدى إلى توترات داخل الحركة المحافظة.
- العلاقات مع الكنائس الأخرى: أثار تأسيس ACNA تحديات في الحفاظ على العلاقات مع الكنائس الأنجليكانية الأخرى في جميع أنحاء العالم.
- الحفاظ على الوحدة: واجهت الكنيسة الأنجليكانية البروتستانتية في أمريكا الشمالية (ACNA) تحديات في الحفاظ على الوحدة الداخلية بسبب الاختلافات في وجهات النظر حول بعض القضايا.
- التبشير في عالم متغير: واجهت الكنيسة الأنجليكانية البروتستانتية في أمريكا الشمالية (ACNA) تحديات في التبشير بالإنجيل في عالم متغير يواجه تحديات أخلاقية واجتماعية جديدة.
الإرث
يترك مؤتمر سانت لويس إرثًا دائمًا على الكنيسة الأنجليكانية. فقد ساهم في تشكيل مسار الأنجليكانية في القرن العشرين، وأثر على تطورها اللاحق. يمثل المؤتمر رمزًا للتمسك بالإيمان التقليدي والحفاظ على التراث الروحي. ولا يزال إعلان سانت لويس بمثابة وثيقة مهمة للأنجليكان المحافظين، ويوفر الأساس الذي تقوم عليه الكنيسة الأنجليكانية البروتستانتية في أمريكا الشمالية (ACNA). يذكرنا مؤتمر سانت لويس بأهمية الحوار والوحدة في مواجهة التحديات، وأهمية الحفاظ على التراث الروحي للأجيال القادمة.
خاتمة
في الختام، كان مؤتمر سانت لويس حدثًا تاريخيًا هامًا ترك بصمة واضحة على تاريخ الكنيسة الأنجليكانية. جمع المؤتمر الأنجليكان من جميع أنحاء العالم لمناقشة القضايا اللاهوتية والكنسية، ونتج عنه إعلان سانت لويس وإنشاء الكنيسة الأنجليكانية البروتستانتية في أمريكا الشمالية (ACNA). على الرغم من الخلافات والتحديات التي واجهها المؤتمر، إلا أنه يمثل مثالًا على التمسك بالإيمان التقليدي والحفاظ على التراث الروحي. لا يزال إرث مؤتمر سانت لويس حيًا، ويستمر في التأثير على الأنجليكان في جميع أنحاء العالم.
المراجع
- Congress of St. Louis – Wikipedia
- The Congress of St. Louis – Anglican.net
- The Anglican Church in North America (ACNA)
- The St. Louis Congress – Virtue Online
“`