نشأته وبداياته
ولد يوحنا في مدينة الإسكندرية بمصر، ونشأ في بيئة مسيحية ملتزمة. تلقى تعليمه الديني في سن مبكرة، وأظهر اهتمامًا خاصًا بالدراسات اللاهوتية والروحية. انخرط في سلك الرهبنة، حيث أمضى سنوات عديدة في أحد الأديرة القريبة من الإسكندرية، مُكرسًا حياته للصلاة والتأمل والدراسة. خلال فترة رهبنته، اكتسب سمعة طيبة بفضل ورعه وتقواه وعلمه الغزير.
تلقى يوحنا تعليمًا كنسيًا عميقًا، مما أهله لتبوُء مناصب قيادية في الكنيسة. عرف عنه حبه للكتب، وقدرته على تفسير النصوص المقدسة، وفهمه العميق للعقيدة المسيحية. ساهم في إثراء الحياة الروحية في مجتمعه، وكان له دور كبير في توجيه المؤمنين وتعليمهم.
اختياره للبابوية
بعد وفاة البابا السابق، اجتمع الأساقفة ورجال الدين لاختيار البابا الجديد. وبسبب سيرة يوحنا الحميدة، وعلمه الوفير، وشخصيته القيادية، تم اختياره بالإجماع ليكون البابا الجديد. تم تنصيبه في عام 505 أو 506 ميلادية، في كاتدرائية القديس مرقس في الإسكندرية، وهي الكاتدرائية الأم للكنيسة القبطية الأرثوذكسية. وبذلك، تولى يوحنا منصب البطريرك، وأصبح رأس الكنيسة القبطية.
أبرز إنجازاته
خلال فترة حبريته، قام البابا يوحنا بعدد من الأعمال والإنجازات الهامة التي تركت بصمة واضحة في تاريخ الكنيسة القبطية. من أبرز هذه الإنجازات:
- الحفاظ على الإيمان الأرثوذكسي: واجهت الكنيسة القبطية العديد من التحديات العقائدية في عصره. كان يوحنا مدافعًا شرسًا عن الإيمان الأرثوذكسي، ورفض بشدة البدع والهرطقات التي ظهرت في ذلك الوقت. عمل على تثبيت المؤمنين في الإيمان الصحيح، وتقديم التوجيهات اللازمة للحفاظ على وحدة الكنيسة.
- إدارة شؤون الكنيسة: قام البابا يوحنا بإدارة شؤون الكنيسة بفاعلية وكفاءة. عمل على تنظيم الهيكل الإداري للكنيسة، وتعيين الأساقفة والقساوسة، والإشراف على الأنشطة الرعوية. كما قام بإنشاء العديد من الأديرة والكنائس، مما ساهم في نشر المسيحية وتعزيز الحياة الروحية.
- العلاقات مع الكنائس الأخرى: حافظ البابا يوحنا على علاقات جيدة مع الكنائس الأخرى في العالم المسيحي. تبادل الرسائل والزيارات مع قادة الكنائس الأخرى، وعمل على تعزيز الوحدة المسيحية. سعى إلى حل الخلافات العقائدية، والتوصل إلى تفاهمات مشتركة.
- دعم التعليم والثقافة: أولى البابا يوحنا اهتمامًا كبيرًا بالتعليم والثقافة. شجع على دراسة الكتاب المقدس والعلوم اللاهوتية، وأنشأ المدارس والمكتبات. كما دعم الفنون والآداب، وساهم في إثراء التراث الثقافي للكنيسة القبطية.
الصراع مع الإمبراطورية البيزنطية
شهد عهد البابا يوحنا صراعًا مريرًا مع الإمبراطورية البيزنطية، التي كانت تحكم مصر في ذلك الوقت. كان الإمبراطور البيزنطي يميل إلى دعم بعض البدع الدينية، مما أدى إلى نشوب خلافات حادة بين الكنيسة القبطية والإمبراطورية. رفض البابا يوحنا الخضوع لقرارات الإمبراطور التي تتعارض مع الإيمان الأرثوذكسي، مما عرضه للاضطهاد والمضايقات.
واجه البابا يوحنا ضغوطًا كبيرة من السلطات البيزنطية، التي حاولت إجباره على تغيير موقفه. ورغم هذه الضغوط، ظل البابا يوحنا ثابتًا على إيمانه، وتمسك بالعقيدة الأرثوذكسية. أدى هذا الصراع إلى تدهور العلاقات بين الكنيسة القبطية والإمبراطورية، وإلى معاناة كبيرة للمؤمنين الأقباط.
وفاته
توفي البابا يوحنا الثاني (الثالث) في عام 516 ميلادية، بعد أن أمضى حوالي عشر سنوات في منصب البابوية. ترك خلفه إرثًا عظيمًا، وذكرى عطرة في قلوب المؤمنين. دفن في الإسكندرية، وأصبح قبره مزارًا للمؤمنين الذين يطلبون شفاعته وصلواته.
يُعتبر البابا يوحنا الثاني (الثالث) من القديسين في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية. يُحتفل بذكراه في التقويم الكنسي، ويُذكر اسمه في صلوات القداسات. تم تكريمه لورعه وتقواه، ولقيادته الحكيمة، ولسعيه الدؤوب للحفاظ على الإيمان الأرثوذكسي.
الدروس المستفادة من حياته
تُعلمنا حياة البابا يوحنا الثاني (الثالث) العديد من الدروس الهامة:
- أهمية الإيمان: تعلمنا حياة البابا يوحنا أهمية التمسك بالإيمان، والدفاع عنه في وجه التحديات.
- القوة في مواجهة الشدائد: تبين لنا حياة البابا يوحنا قوة الإيمان والصلاة في مواجهة الشدائد والاضطهاد.
- القيادة الحكيمة: تظهر لنا حياة البابا يوحنا أهمية القيادة الحكيمة والمسؤولة في إدارة شؤون الكنيسة والمجتمع.
- خدمة الآخرين: تعلمنا حياة البابا يوحنا أهمية خدمة الآخرين، والاهتمام بالفقراء والمحتاجين.
إرثه
يُعد البابا يوحنا الثاني (الثالث) شخصية محورية في تاريخ الكنيسة القبطية. ترك إرثًا عظيمًا من خلال أعماله وإنجازاته. أعماله في الحفاظ على الإيمان الأرثوذكسي، وإدارة شؤون الكنيسة، والعلاقات مع الكنائس الأخرى، ودعم التعليم والثقافة، كلها ساهمت في بناء الكنيسة القبطية القوية التي نعرفها اليوم. تُذكر حياته كمثال للتقوى والشجاعة والقيادة الحكيمة. يبقى اسمه محفورًا في ذاكرة الكنيسة القبطية، ويُقتدى به من قبل المؤمنين عبر الأجيال.
خاتمة
في الختام، يمثل البابا يوحنا الثاني (الثالث) الإسكندري شخصية بارزة في تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية. لقد ترك إرثًا دينيًا وثقافيًا عظيمًا، وأظهر قوة الإيمان في مواجهة التحديات. كانت حياته نموذجًا للقيادة الحكيمة، والتمسك بالعقيدة، وخدمة الآخرين. يستمر ذكره في الكنيسة القبطية كقديس، وتُقتدى به من قبل المؤمنين في جميع أنحاء العالم.
المراجع
- سيرة البابا يوحنا الثاني (الثالث) على موقع الأنبا تكلا هيمانوت
- البابا يوحنا الثاني (الثالث) في تاريخ الكنيسة القبطية
- مقالة عن البابا يوحنا الثاني (الثالث) في موسوعة بريتانيكا
“`