<![CDATA[
من هو مايك ديفيس؟
مايك ديفيس (1946-2022) كان مؤرخًا وناشطًا اجتماعيًا أمريكيًا، اشتهر بتحليلاته النقدية للرأسمالية، والعولمة، والتغيرات البيئية، وتأثيرها على المجتمعات الضعيفة. كتب ديفيس العديد من الكتب المؤثرة، وحصل على جوائز تقديرية لأعماله الفكرية.
ملخص الكتاب
يقدم كتاب “المحرقة الفيكتورية المتأخرة” حجة قوية ومقنعة، تؤكد على أن المجاعات التي ضربت العالم في أواخر القرن التاسع عشر، خاصة في الهند والصين والبرازيل وإفريقيا، لم تكن مجرد كوارث طبيعية ناجمة عن الجفاف أو الفيضانات. بل كانت نتاجًا لسياسات استعمارية واقتصادية خاطئة، ساهمت في تفاقم الأزمات الإنسانية.
يعتمد ديفيس على تحليل معمق للبيانات التاريخية، بما في ذلك التقارير الحكومية، والمراسلات، والتحقيقات الصحفية، لإثبات أن هذه المجاعات كانت نتاجًا لعدة عوامل مترابطة، منها:
- ظاهرة النينيو: يوضح ديفيس كيف أن تقلبات الطقس المرتبطة بظاهرة النينيو، والتي تتسبب في فترات جفاف أو فيضانات، أدت إلى تدمير المحاصيل والموارد الغذائية.
- الاستعمار: يبرز ديفيس الدور السلبي للسياسات الاستعمارية الأوروبية، التي استغلت الموارد الطبيعية والبشرية في المستعمرات، وأهملت احتياجات السكان المحليين.
- اقتصاد السوق العالمي: يوضح ديفيس كيف أن التوسع الرأسمالي، والتركيز على الزراعة النقدية (مثل القطن وقصب السكر)، على حساب إنتاج الغذاء، أدى إلى تفاقم أوضاع المجاعات.
- غياب الاستجابة الإنسانية الفعالة: يلقي ديفيس باللوم على الحكومات الاستعمارية والمؤسسات الدولية في إخفاقها في توفير الإغاثة الإنسانية اللازمة، أو في معالجة الأسباب الجذرية للمجاعات.
العلاقة بين النينيو والمجاعات
يشرح ديفيس العلاقة المعقدة بين ظاهرة النينيو، وهي ظاهرة مناخية طبيعية تحدث في المحيط الهادئ الاستوائي، والمجاعات التي ضربت العالم في أواخر القرن التاسع عشر. فالنينيو تؤثر على أنماط الطقس العالمية، مما يؤدي إلى فترات جفاف شديدة في بعض المناطق، وفيضانات في مناطق أخرى. هذه الظواهر المناخية المتطرفة أدت إلى تدمير المحاصيل، ونقص الغذاء، وانتشار الأمراض، مما تسبب في وفاة ملايين الأشخاص.
ومع ذلك، يشدد ديفيس على أن النينيو لم تكن السبب الوحيد للمجاعات. بل كانت بمثابة عامل مساهم، تفاقم بفعل عوامل أخرى، مثل السياسات الاستعمارية، والتحولات الاقتصادية.
الاستعمار والمسؤولية عن المجاعات
يقدم ديفيس تحليلًا نقديًا للسياسات الاستعمارية، ويؤكد على أنها لعبت دورًا حاسمًا في تفاقم المجاعات. فقد قامت القوى الاستعمارية الأوروبية، مثل بريطانيا وفرنسا، باستغلال الموارد الطبيعية والبشرية في المستعمرات، من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية. هذا الاستغلال أدى إلى:
- إفقار السكان المحليين: من خلال فرض الضرائب الباهظة، ومصادرة الأراضي، واستغلال العمالة الرخيصة.
- تدمير الزراعة التقليدية: من خلال تشجيع الزراعة النقدية، على حساب إنتاج الغذاء اللازم للسكان المحليين.
- إهمال البنية التحتية: مثل أنظمة الري، والطرق، والمستشفيات، مما جعل السكان عرضة للمجاعات والأمراض.
- اللامبالاة تجاه معاناة السكان: حيث لم تبذل الحكومات الاستعمارية جهودًا كافية لتوفير الإغاثة الإنسانية، أو لمعالجة الأسباب الجذرية للمجاعات.
اقتصاد السوق العالمي وتأثيره
يوضح ديفيس كيف أن التوسع الرأسمالي، والاندماج في اقتصاد السوق العالمي، لعب دورًا في تفاقم المجاعات. فقد أدت العولمة إلى:
- زيادة الاعتماد على التجارة: مما جعل الاقتصادات المحلية عرضة لتقلبات الأسعار، واضطرابات سلاسل الإمداد.
- تشجيع الزراعة النقدية: مثل زراعة القطن وقصب السكر، على حساب زراعة المحاصيل الغذائية الأساسية.
- تجاهل الأمن الغذائي: حيث لم يتم إعطاء الأولوية لتوفير الغذاء الكافي للسكان المحليين.
حالات دراسية
يقدم الكتاب عددًا من دراسات الحالة التفصيلية للمجاعات، منها:
- مجاعة الهند (1876-1879): يوضح ديفيس كيف أن السياسات الاستعمارية البريطانية، مثل فرض الضرائب الباهظة، والتركيز على الزراعة النقدية، ساهمت في تفاقم المجاعة، التي أودت بحياة الملايين.
- مجاعة الصين (1876-1879): يشرح ديفيس كيف أن الجفاف الشديد، والسياسات الحكومية غير الفعالة، أدت إلى مجاعة مدمرة في شمال الصين.
- مجاعات البرازيل (1877-1879): يوضح ديفيس كيف أن الجفاف، والفقر، والسياسات الحكومية الفاشلة، تسببت في مجاعة واسعة النطاق في شمال شرق البرازيل.
- مجاعات إفريقيا (1880-1900): يدرس ديفيس تأثير الاستعمار الأوروبي، والحروب، والجفاف، على المجاعات التي ضربت مناطق مختلفة من إفريقيا، بما في ذلك إثيوبيا، وزيمبابوي، وموزمبيق.
النقد والتحديات
على الرغم من تأثير الكتاب الكبير، فقد واجه أيضًا بعض الانتقادات:
- التبسيط المفرط: يرى البعض أن ديفيس يبالغ في تبسيط أسباب المجاعات، ويقلل من دور العوامل الأخرى، مثل الصراعات المحلية، والأمراض.
- التحليل الانتقائي للبيانات: يتهم النقاد ديفيس باختيار البيانات التي تدعم حجته، وإغفال البيانات التي تتعارض معها.
- التركيز على المسؤولية الغربية: يرى البعض أن ديفيس يركز بشكل مفرط على مسؤولية القوى الغربية عن المجاعات، ويقلل من دور العوامل المحلية.
ومع ذلك، يبقى الكتاب عملًا هامًا ومؤثرًا، ساهم في تغيير الطريقة التي نفكر بها في المجاعات، وفي العلاقة بين التغيرات المناخية، والسياسات الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية.
أهمية الكتاب
يتمتع كتاب “المحرقة الفيكتورية المتأخرة” بأهمية كبيرة لعدة أسباب:
- يسلط الضوء على العلاقات المعقدة بين المناخ، والسياسة، والاقتصاد، والمجاعات: ويحث القراء على التفكير النقدي في أسباب الأزمات الإنسانية.
- يقدم تحليلاً تاريخيًا معمقًا وموثقًا جيدًا: يعتمد على مجموعة واسعة من المصادر الأولية والثانوية.
- يثير تساؤلات مهمة حول العدالة الاجتماعية والمسؤولية الأخلاقية: ويحث على اتخاذ إجراءات لمعالجة الأسباب الجذرية للمجاعات والفقر.
- يقدم رؤى قيمة حول قضايا التنمية العالمية والبيئة: والتي لا تزال ذات صلة كبيرة في عالم اليوم.
بشكل عام، يعتبر “المحرقة الفيكتورية المتأخرة” عملًا رائدًا ومثيرًا للتفكير، ويحث القراء على إعادة النظر في فهمهم للتاريخ، وللعلاقات المعقدة بين القوة، والفقر، والمجاعات.
خاتمة
في الختام، يقدم كتاب “المحرقة الفيكتورية المتأخرة” تحليلًا ثاقبًا ومثيرًا للجدل للمجاعات التي ضربت العالم في أواخر العصر الفيكتوري. يجادل الكتاب بأن هذه المجاعات لم تكن مجرد كوارث طبيعية، بل كانت نتيجة لسياسات استعمارية واقتصادية خاطئة، ساهمت في تفاقم الأزمات الإنسانية. على الرغم من بعض الانتقادات التي وجهت للكتاب، إلا أنه يبقى عملًا هامًا ومؤثرًا، يسلط الضوء على العلاقات المعقدة بين المناخ والسياسة والاقتصاد والعدالة الاجتماعية. يساهم الكتاب في فهم أعمق لأسباب المجاعات، ويحث على اتخاذ إجراءات لمعالجة الأسباب الجذرية للفقر والظلم في عالم اليوم.