نشأته وتعليمه
ولد إرفين بومكه في كلوستر (اليوم جزء من براندنبورغ). درس القانون في جامعات برلين وماربورغ وغرايفسفالت. بعد حصوله على شهادة الدكتوراه في القانون، بدأ حياته المهنية كقاضٍ في عام 1901. خلال الحرب العالمية الأولى، خدم بومكه في الجيش الألماني وحصل على وسام الصليب الحديدي.
مسيرته المهنية قبل الحقبة النازية
قبل صعود النازيين إلى السلطة، كان بومكه قاضياً محترماً يتمتع بسمعة طيبة. شغل مناصب قضائية مختلفة، بما في ذلك منصب قاضٍ في محكمة الاستئناف العليا في برلين. كان يُنظر إليه على أنه شخص محافظ ولكنه ملتزم بالقانون والقواعد الإجرائية.
بومكه ورئاسة محكمة الرايخ
في عام 1929، تم تعيين بومكه رئيساً لمحكمة الرايخ، أعلى محكمة في ألمانيا. يعتبر هذا المنصب من أهم المناصب القضائية في البلاد، حيث تتولى المحكمة مسؤولية تفسير القوانين وتطبيقها على مستوى البلاد. خلال فترة جمهورية فايمار، حاولت محكمة الرايخ الحفاظ على استقلالها عن التدخل السياسي، ولكن مع صعود النازيين إلى السلطة في عام 1933، تغير الوضع بشكل جذري.
انخراطه في النظام النازي
بعد تولي النازيين السلطة، انخرط بومكه تدريجياً في النظام النازي. على الرغم من أنه لم يكن عضواً في الحزب النازي، إلا أنه تعاون مع النظام وساهم في تطبيق قوانينه وسياساته. يُعتقد أن بومكه كان مدفوعاً بمزيج من الطموح السياسي والرغبة في الحفاظ على منصبه، فضلاً عن إيمانه بضرورة الحفاظ على النظام والاستقرار، حتى لو كان ذلك على حساب العدالة والحقوق الأساسية.
دوره في تطبيق القوانين العنصرية
لعب بومكه دوراً حاسماً في تطبيق القوانين العنصرية التي أصدرها النظام النازي، وعلى رأسها قوانين نورمبرغ لعام 1935. هذه القوانين حرمت اليهود الألمان من حقوقهم المدنية والسياسية والاقتصادية، ومهدت الطريق لاضطهادهم وإبادتهم. بصفتة رئيساً لمحكمة الرايخ، كان بومكه مسؤولاً عن ضمان تطبيق هذه القوانين بشكل فعال، وغالباً ما كان يفسرها بطريقة تخدم مصالح النظام النازي.
من أبرز الأمثلة على دور بومكه في تطبيق القوانين العنصرية ما يتعلق بتفسيره لمفهوم “العرق الآري”. ساهمت تفسيرات بومكه في تضييق تعريف “العرق الآري” واستبعاد المزيد من الأشخاص من المجتمع الألماني، مما سهل عملية اضطهادهم واستبعادهم. كما لعب دوراً في تطبيق قوانين منع “تلوث الدم” التي تحظر الزواج والعلاقات الجنسية بين الألمان “الآريين” واليهود.
المحاكمات السياسية والقمع
تحت رئاسة بومكه، شاركت محكمة الرايخ في العديد من المحاكمات السياسية التي استهدفت معارضي النظام النازي. تم استخدام هذه المحاكمات كأداة للقمع السياسي، حيث تم إصدار أحكام قاسية على المتهمين بناءً على أدلة ضعيفة أو ملفقة. ساهم بومكه في إضفاء الشرعية القانونية على هذه المحاكمات، مما ساعد النظام النازي على إسكات المعارضة وترسيخ سلطته.
من الأمثلة على المحاكمات السياسية التي شاركت فيها محكمة الرايخ تحت رئاسة بومكه، المحاكمات التي استهدفت الشيوعيين والاشتراكيين وغيرهم من المعارضين السياسيين. غالباً ما كانت هذه المحاكمات تتم في أجواء مشحونة بالدعاية النازية، وكانت الأحكام تصدر بناءً على اعتبارات سياسية وليس قانونية.
الجدل حول دوره ومسؤوليته
لا يزال دور إرفين بومكه في الحقبة النازية موضوع جدل واسع. يرى البعض أنه كان مجرد موظف دولة ملتزماً بتطبيق القانون، وأن الظروف السياسية الصعبة أجبرته على التعاون مع النظام النازي. بينما يرى آخرون أنه كان مسؤولاً عن المساهمة في جرائم النظام النازي من خلال تطبيق القوانين العنصرية والقمعية، وأنه كان بإمكانه فعل المزيد لمقاومة النظام أو الاستقالة من منصبه.
من المؤكد أن بومكه لم يكن من كبار قادة النظام النازي، ولم يكن مشاركاً بشكل مباشر في التخطيط لجرائم الحرب أو الإبادة الجماعية. ومع ذلك، فإن دوره في تطبيق القوانين والسياسات النازية ساهم في إضفاء الشرعية القانونية على هذه الجرائم، وجعل من السهل على النظام النازي تنفيذها. لذلك، يتحمل بومكه مسؤولية كبيرة عن المساهمة في معاناة ضحايا النظام النازي.
نهايته ووفاته
مع اقتراب نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا النازية، انتحر إرفين بومكه في 20 أبريل 1945 في لايبزيغ. يعتبر انتحاره تعبيراً عن يأسه من المستقبل وإدراكه للمسؤولية التي يتحملها عن جرائم النظام النازي.
إرثه وتأثيره
يعتبر إرث إرفين بومكه معقداً ومثيراً للجدل. من ناحية، كان قاضياً محترماً يتمتع بخبرة قانونية واسعة. ومن ناحية أخرى، فقد انخرط في النظام النازي وساهم في تطبيق قوانينه وسياساته القمعية والعنصرية. يمثل بومكه تحذيراً من مخاطر التعاون مع الأنظمة الاستبدادية، وضرورة الحفاظ على استقلال القضاء وحماية حقوق الإنسان.
لا يزال اسم إرفين بومكه مرتبطاً بالعار في تاريخ القانون الألماني. يُنظر إليه على أنه رمز للقضاة الذين خانوا واجباتهم والتزموا الصمت أو التعاون مع نظام قمعي. يجب أن يكون إرثه بمثابة تذكير دائم بأهمية الالتزام بالعدالة والحقوق الأساسية، حتى في ظل الظروف السياسية الصعبة.
خاتمة
إرفين بومكه، الرئيس الأخير لمحكمة الرايخ، يمثل شخصية محورية في تاريخ القانون الألماني خلال الحقبة النازية. إن انخراطه في النظام النازي وتطبيقه للقوانين العنصرية والقمعية يثير تساؤلات مهمة حول مسؤولية القضاة في الأنظمة الاستبدادية. يظل إرثه بمثابة تذكير بأهمية استقلال القضاء وحماية حقوق الإنسان، وضرورة مقاومة أي شكل من أشكال الظلم والاضطهاد.