نشأته ودخوله الرهبنة
ولد برنارد في فونتين ليه ديجون، بالقرب من ديجون، فرنسا، وهو الثالث بين سبعة أطفال ولدوا لتيسلين، وهو فارس مرتبط بدوقية بورغوندي، وأليث دي مونبارد، وهي امرأة من عائلة نبيلة. وفقًا لتقاليد لاحقة، كان له تأثير كبير على تقوى برنارد. في سن مبكرة، أظهر برنارد ميلاً كبيراً للدين. تلقى تعليمه في شاتيلون سور سين، وأظهر براعة ملحوظة في الأدب. كان ينوي الدخول إلى الأدب، لكنه تخلى عن هذه الطموحات ليصبح ناسكًا.
عندما بلغ التاسعة عشرة من عمره، وبعد وفاة والدته، قرر برنارد دخول دير سيسترسي في سيتو. في عام 1113، دخل الدير مع 30 شابًا آخر، من بينهم أفراد من عائلته. أدت قيادته وتقواه الشديدة إلى تسريع نمو الرهبنة السيسترية. في عام 1115، أُرسل برنارد على رأس مجموعة من اثني عشر راهباً لتأسيس دير جديد في وادي يسمى “وادي الأفسنتين”. أطلق برنارد على هذا المكان اسم كليرفو (كليرفال)، وسرعان ما أصبح هذا الدير الجديد مشهوراً بقدسيته.
تأسيس كليرفو وتأثيره
تحت قيادة برنارد، ازدهر دير كليرفو، وجذب العديد من الرهبان الجدد. تبنى برنارد نمط حياة زاهداً وتقشفياً للغاية، مما أثر على مجتمعه بأكمله. كان تأثيره يمتد إلى ما هو أبعد من جدران الدير، حيث سعى إليه الأمراء والباباوات طلباً للمشورة. أصبح كليرفو مركزاً للروحانية والتعليم، مما ساهم في الإصلاح الديني والاجتماعي في أوروبا في ذلك الوقت.
لعب برنارد دورًا حاسمًا في ترسيخ النظام السيسترسي. بحلول وقت وفاته، كان هناك 343 ديرًا سيسترسياً، العديد منها تأسس بتأثير مباشر أو غير مباشر من كليرفو. كتابه “Apologia ad Guillelmum” هو دفاع عن المثل الرهبانية السيسترية ضد الرفاهية المفرطة التي لاحظها في الرهبنة الكلونية. كان يرى أن الرهبان يجب أن يكرسوا أنفسهم للصلاة والعمل اليدوي، بعيدًا عن ملذات العالم.
دوره في السياسة الكنسية
كان لبرنارد تأثير كبير في السياسة الكنسية. في عام 1130، عندما نشأ انشقاق في الكنيسة الكاثوليكية بانتخاب بابا جديد (إنوسنت الثاني) وبابا مضاد (أناكلتوس الثاني)، تدخل برنارد بقوة لدعم إنوسنت الثاني. أقنع ملوك فرنسا وإنجلترا وألمانيا بدعم إنوسنت، مما ساهم في نهاية المطاف في حل الانشقاق.
كما كان برنارد منتقداً قوياً لأبي لار، الفيلسوف واللاهوتي الشهير. اعتقد برنارد أن تعاليم لار كانت هرطقة، وضغط من أجل إدانته. أدت جهوده إلى إدانة آراء لار في مجلس سينس عام 1140. ومع ذلك، سعى برنارد أيضًا إلى المصالحة مع لار قبل وفاته.
الدعوة للحملة الصليبية الثانية
في عام 1146، بعد سقوط إديسا في يد المسلمين، كُلف برنارد بالدعوة إلى الحملة الصليبية الثانية من قبل البابا يوجينيوس الثالث. سافر برنارد في جميع أنحاء فرنسا وألمانيا، وحث الناس على حمل السلاح لتحرير الأراضي المقدسة. بفضل بلاغته وقوة شخصيته، نجح في حشد جيش كبير. ومع ذلك، انتهت الحملة الصليبية الثانية بفشل ذريع، مما ألحق ضرراً كبيراً بسمعة برنارد.
على الرغم من فشل الحملة الصليبية الثانية، إلا أن برنارد ظل شخصية مؤثرة في الكنيسة. استمر في تقديم المشورة للباباوات والملوك، وكتب العديد من الرسائل والمقالات حول مجموعة واسعة من الموضوعات الدينية والأخلاقية.
كتاباته ولاهوته
تُعتبر كتابات برنارد من بين أهم الأعمال اللاهوتية في العصور الوسطى. كان لاهوتياً متصوفاً، يركز على أهمية المحبة الإلهية والاتحاد بالله. من بين أشهر أعماله:
- “De Diligendo Deo” (عن محبة الله): يستكشف هذا الكتاب طبيعة المحبة الإلهية وكيف يمكن للمرء أن ينميها في قلبه.
- “De Gradibus Humilitatis et Superbiae” (عن درجات التواضع والكبرياء): يصف هذا الكتاب الدرجات المختلفة للتواضع والكبرياء، ويوضح كيف يمكن للمرء أن يتغلب على الكبرياء ويصل إلى التواضع الحقيقي.
- “Sermones super Cantica Canticorum” (عظات على نشيد الأنشاد): هي سلسلة من العظات التي تفسر نشيد الأنشاد كقصة حب بين الله والنفس البشرية.
تأثرت كتابات برنارد بشكل كبير بالكتاب المقدس وآباء الكنيسة، وخاصة القديس أوغسطينوس. كان يؤمن بأهمية الخبرة الشخصية مع الله، وشدد على دور المحبة في الحياة الروحية. كان لاهوته بسيطًا وعميقًا، ويهدف إلى مساعدة الناس على الاقتراب من الله.
وفاته وتكريمه
توفي برنارد في 20 أغسطس 1153، في دير كليرفو. تم تقديسه من قبل الكنيسة الكاثوليكية في عام 1174 من قبل البابا ألكسندر الثالث. يُحتفل بعيده في 20 أغسطس. يعتبر برنارد من بين أعظم آباء الكنيسة والأطباء، ويُعرف باسم “طبيب العسل” بسبب حلاوة بلاغته وكتاباته. لا يزال تأثيره محسوساً حتى اليوم، ولا تزال كتاباته تُقرأ وتُدرس على نطاق واسع.
تراثه وتأثيره المستمر
لا يزال برنارد من كليرفو شخصية مهمة في تاريخ الكنيسة الغربية والروحانية المسيحية. كان له تأثير عميق على الرهبنة، واللاهوت، والسياسة الكنسية. كتاباته لا تزال مصدر إلهام للمتصوفين واللاهوتيين اليوم. يُذكر برنارد بتقواه الشديدة، وبلاغته القوية، وتفانيه في خدمة الله.
كانت رؤيته للإصلاح الرهباني بمثابة نموذج للأجيال اللاحقة من الرهبان والراهبات. دعوته إلى التواضع والمحبة الإلهية لا تزال ذات صلة في عالم اليوم. يعتبر برنارد من كليرفو قديساً ومعلماً، ورمزًا للروحانية المسيحية الحقيقية.
خاتمة
كان برنارد من كليرفو شخصية بارزة في القرن الثاني عشر، لعب دورًا محوريًا في تجديد الرهبنة السيسترية، وتأثيرًا كبيرًا في السياسة الكنسية، ومساهمًا مهمًا في اللاهوت المتصوف. من خلال كتاباته وعمله، ترك بصمة لا تُمحى على الكنيسة الغربية والروحانية المسيحية، ولا يزال إرثه يلهم الناس حتى يومنا هذا.