خلفية تاريخية
شهدت ألمانيا في فترة ما بين الحربين العالميتين اضطرابات سياسية واقتصادية كبيرة. أدت معاهدة فرساي، التي أنهت الحرب العالمية الأولى، إلى فرض عقوبات قاسية على ألمانيا، مما أدى إلى التضخم والفقر والاضطرابات الاجتماعية. في هذا السياق، اكتسبت الأحزاب السياسية المتطرفة، مثل الحزب النازي، شعبية من خلال تقديم حلول بسيطة لمشاكل معقدة.
في أوائل الثلاثينيات، كان الحزب النازي، بقيادة أدولف هتلر، في طريقه إلى السلطة. وعدوا بإعادة بناء الأمة الألمانية، وتوفير فرص عمل، واستعادة الكرامة الوطنية. بالنسبة لبعض المثقفين الألمان، مثل هايدجر، بدا الحزب النازي كقوة قادرة على إحياء الثقافة الألمانية وإعادة التوازن إلى المجتمع.
دخول هايدجر إلى الحزب النازي
في عام 1933، انتُخب هايدجر عميدًا لجامعة فرايبورغ. بعد فترة وجيزة، في 1 مايو 1933، انضم إلى الحزب النازي. كان هذا القرار مفاجئًا لكثير من زملائه ومريديه، حيث كان يُنظر إلى هايدجر في السابق على أنه مفكر مستقل وبعيد عن السياسة. ومع ذلك، هناك عدة عوامل ساهمت في اتخاذ هايدجر لهذا القرار.
- الوطنية والروح الألمانية: اعتقد هايدجر أن الحزب النازي يمثل فرصة لإحياء الروح الألمانية وتعزيز الثقافة الألمانية. رأى في النازية حركة قادرة على توحيد الأمة واستعادة مجدها السابق.
- التحول في الجامعة: أراد هايدجر إعادة تشكيل الجامعة بما يتماشى مع الأيديولوجية النازية. اعتقد أن هذه هي الطريقة لضمان مستقبل الجامعة كمركز للفكر والثقافة الألمانية.
- الفرص السياسية: ربما رأى هايدجر في الحزب النازي فرصة للارتقاء المهني والسياسي. من خلال الانضمام إلى الحزب، كان يأمل في تعزيز نفوذه وتأثيره في الأوساط الأكاديمية.
هايدجر كعميد
بعد انضمامه إلى الحزب النازي، لعب هايدجر دورًا نشطًا في سياسات الجامعة. ألقى خطابات دعائية، وأصدر أوامر بطرد الأساتذة اليهود، وعمل على تكييف المناهج الدراسية لتتوافق مع الأيديولوجية النازية. كان هايدجر يأمل في تحويل الجامعة إلى مركز للفكر النازي، حيث يتم تعليم الطلاب على القيم النازية.
أحد أبرز أعماله خلال فترة عمادته كان خطابه بمناسبة العام الدراسي الجديد عام 1933، والذي حمل عنوان “إعلان الجامعة الألمانية”. في هذا الخطاب، أعلن هايدجر أن الجامعة يجب أن تكون في خدمة الأمة الألمانية وأن الطلاب يجب أن يلتزموا بالقيم النازية. ومع ذلك، كان هذا الخطاب أيضًا مليئًا بالتناقضات، حيث أشار هايدجر إلى أهمية الفكر الحر في الوقت الذي كان يروج فيه لأيديولوجية قمعية.
علاقة هايدجر بالنازية: تحليل نقدي
كانت العلاقة بين هايدجر والنازية معقدة ومتناقضة. على الرغم من انضمامه إلى الحزب، إلا أنه لم يصبح نازيًا بالمعنى الكامل للكلمة. لم يشارك في الجرائم الفظيعة التي ارتكبها النظام النازي، ولم يشارك في معاداة السامية الصريحة التي كانت شائعة في ذلك الوقت.
ومع ذلك، فإن دعمه للنازية لا يمكن تبريره. من خلال انضمامه إلى الحزب وتعاونه مع النظام، قدم هايدجر الشرعية والمصداقية لحركة سياسية فاشية. علاوة على ذلك، فإن صمته بشأن الفظائع التي ارتكبها النظام النازي بعد ذلك كان بمثابة مشاركة ضمنية.
هناك عدة تفسيرات لمحاولة فهم علاقة هايدجر بالنازية:
- التفسير الفلسفي: يرى بعض العلماء أن دعم هايدجر للنازية كان نتيجة لطبيعة فلسفته الوجودية. يعتقدون أن هايدجر كان مهتمًا بمفهوم “الوجود” و”الزمن” و”التاريخ” أكثر من اهتمامه بالسياسة. بالنسبة لهم، كان انضمامه إلى الحزب النازي مجرد خطأ تاريخي، وليس انعكاسًا لقناعاته الفلسفية.
- التفسير السياسي: يرى آخرون أن هايدجر كان مدفوعًا بدوافع سياسية. يعتقدون أنه كان يأمل في استخدام الحزب النازي لتحقيق أهدافه الخاصة، مثل تعزيز الجامعة وتوسيع نفوذه. بالنسبة لهم، كانت فلسفة هايدجر مجرد أداة لتحقيق أهدافه السياسية.
- التفسير النفسي: يقترح البعض أن هايدجر كان يعاني من أزمة هوية في ذلك الوقت. يعتقدون أنه كان يبحث عن الانتماء والشعور بالهدف، وأن الحزب النازي قدم له ذلك.
التأثير على فلسفة هايدجر
أثرت مشاركة هايدجر في النازية بشكل كبير على عمله الفلسفي. بعد الحرب العالمية الثانية، تجنب هايدجر صراحة مناقشة مشاركته في النازية. ومع ذلك، استمرت هذه القضية في ملاحقته، وأثرت على الطريقة التي قرأ بها الناس عمله الفلسفي.
اتهم بعض النقاد هايدجر بأنه استخدم فلسفته لتبرير أفعاله السياسية. يعتقدون أن فلسفته كانت غامضة ومبهمة، مما سمح له بتفسيرها بطرق مختلفة لتناسب احتياجاته السياسية. ومع ذلك، دافع آخرون عن هايدجر، بحجة أن فلسفته كانت منفصلة عن أفعاله السياسية، وأن أعماله الفلسفية يجب أن تُقيَّم بمعزل عن مشاركته في النازية.
على الرغم من الجدل المستمر حول مشاركته في النازية، يظل عمل هايدجر الفلسفي مؤثرًا للغاية. لقد أثر على مجالات متنوعة مثل اللاهوت، والأدب، والفن، والعلوم الاجتماعية. قدم هايدجر مساهمات كبيرة في فهمنا للوجود، والزمن، واللغة، والتقنية. ومع ذلك، يجب أن يتم التعامل مع إرثه الفلسفي بعين ناقدة، مع الأخذ في الاعتبار مشاركته في النازية.
إرث هايدجر
لا يزال إرث هايدجر موضوعًا للنقاش. يرى البعض أنه فيلسوف عظيم، بينما يرى آخرون أنه شخصية مثيرة للجدل بسبب مشاركته في النازية. من المؤكد أن مشاركة هايدجر في النازية ستبقى جزءًا لا يتجزأ من إرثه، وستستمر في التأثير على الطريقة التي يُنظر بها إلى عمله الفلسفي.
اليوم، تُدرس أعمال هايدجر على نطاق واسع في الجامعات في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، غالبًا ما يتم تدريس أعماله مع الاعتراف بمشاركته في النازية. تعتبر هذه المشاركة تذكيرًا بأهمية النقد الذاتي والمساءلة الأخلاقية.
خاتمة
كانت مشاركة مارتن هايدجر في الحزب النازي فترة مظلمة في حياة فيلسوف عظيم. على الرغم من مساهماته الكبيرة في الفلسفة، فإن دعمه للنازية لا يمكن تبريره. يجب على المرء أن يتعامل مع إرثه الفلسفي بعين ناقدة، مع الأخذ في الاعتبار مشاركته في النازية. يجب أن نتعلم من أخطاء الماضي، وأن نسعى دائمًا إلى التفكير النقدي والمساءلة الأخلاقية. يظل هايدجر شخصية معقدة ومثيرة للجدل، وتاريخه يمثل تذكيرًا دائمًا بالعواقب المروعة للأيديولوجيات السياسية المتطرفة.