الإرادة من الدرجة العليا (Higher-order Volition)

ما هي الإرادة من الدرجة العليا؟

لفهم الإرادة من الدرجة العليا، من الضروري أولاً التمييز بين نوعين من الرغبات: الرغبات من الدرجة الأولى والرغبات من الدرجة الثانية. الرغبات من الدرجة الأولى هي رغباتنا المباشرة، تلك التي تدفعنا إلى القيام بأشياء معينة. على سبيل المثال، قد أرغب في تناول قطعة من الشوكولاتة، أو مشاهدة فيلم، أو الخروج في نزهة. هذه الرغبات تحرك أفعالي المباشرة. من ناحية أخرى، الرغبات من الدرجة الثانية هي رغبات حول رغباتنا من الدرجة الأولى. إنها تعكس تقييماتنا ورغباتنا المتعلقة بما نريده حقًا، وما نعتقد أنه الأفضل لنا، أو ما نعتقد أنه يستحق السعي وراءه. على سبيل المثال، قد أرغب في التوقف عن التدخين (رغبة من الدرجة الأولى)، ولكني في نفس الوقت، قد أرغب في أن لا أرغب في التدخين (رغبة من الدرجة الثانية). هذا يعني أنني أدرك أن التدخين ضار، وأريد أن أتخلص من هذه الرغبة.

الفيلسوف هاري فرانكفورت، في ورقته المؤثرة “حرية الإرادة ومفهوم الشخص” (Freedom of the Will and the Concept of a Person)، قدم هذه الفروق بشكل بارز. يجادل فرانكفورت بأن ما يميز الإنسان عن الحيوانات الأخرى هو قدرته على امتلاك رغبات من الدرجة الثانية. الحيوانات قد يكون لديها رغبات من الدرجة الأولى، ولكنها تفتقر إلى القدرة على التفكير في رغباتها أو تقييمها. هذا الوعي الذاتي بالإرادة هو ما يشكل، وفقًا لفرانكفورت، الشخصية.

أهمية الإرادة من الدرجة العليا

الإرادة من الدرجة العليا لها أهمية كبيرة في مجالات مختلفة، بما في ذلك:

الاختيار والتحكم في الذات: تمكننا الإرادة من الدرجة العليا من التفكير النقدي في رغباتنا، واختيار ما نرغب في تحقيقه حقًا. إنها تسمح لنا بالتحكم في سلوكنا، بدلاً من أن نكون مجرد أسرى لرغباتنا المباشرة. على سبيل المثال، الشخص الذي يرغب في إنقاص وزنه قد يستخدم رغباته من الدرجة الثانية (الرغبة في أن يكون بصحة جيدة) للتغلب على رغباته من الدرجة الأولى (الرغبة في تناول الأطعمة غير الصحية).
الأخلاق والمسؤولية: تلعب الإرادة من الدرجة العليا دورًا أساسيًا في الأخلاق. إذا كنا مسؤولين عن أفعالنا، فيجب أن نكون مسؤولين أيضًا عن رغباتنا. الإرادة من الدرجة العليا تسمح لنا بتقييم رغباتنا من وجهة نظر أخلاقية، واتخاذ قرارات أخلاقية تعكس قيمنا. الشخص الذي لديه رغبة من الدرجة الثانية في أن يكون شخصًا رحيمًا، على سبيل المثال، من المرجح أن يتصرف بطريقة رحيمة.
التنمية الشخصية: فهم رغباتنا من الدرجة العليا يساعدنا في تحديد أهدافنا، وتحسين سلوكنا، وتحقيق التنمية الشخصية. من خلال تقييم ما نريده حقًا، يمكننا اتخاذ قرارات أفضل بشأن حياتنا المهنية، وعلاقاتنا، وصحتنا.
فهم الإدمان: يمكن أن تساعدنا الإرادة من الدرجة العليا في فهم الإدمان بشكل أفضل. المدمن قد يرغب في التوقف عن تعاطي المخدرات (رغبة من الدرجة الثانية)، ولكنه قد لا يزال يعاني من الرغبة الشديدة في التعاطي (رغبة من الدرجة الأولى). الصراع بين هاتين الرغبتين هو سمة أساسية من سمات الإدمان.

مشاكل وتحديات

على الرغم من أهمية الإرادة من الدرجة العليا، إلا أنها تثير أيضًا عددًا من المشكلات والتحديات الفلسفية. أحد هذه التحديات هو مشكلة “الانزلاق إلى ما لا نهاية”. إذا كانت الرغبات من الدرجة الثانية مهمة، فلماذا لا نحتاج إلى رغبات من الدرجة الثالثة (رغبات حول الرغبات من الدرجة الثانية)؟ وإذا كانت الرغبات من الدرجة الثالثة مهمة، فلماذا لا نحتاج إلى رغبات من الدرجة الرابعة؟ وهلم جرا. هذه المشكلة تثير تساؤلات حول ما إذا كان من الممكن أن تكون هناك رغبة نهائية أو حقيقية تحدد ما نريده حقًا.

تحد آخر هو تحديد ما إذا كانت الرغبات من الدرجة العليا ضرورية للحرية. هل يمكننا أن نكون أحرارًا إذا لم يكن لدينا قدرة على التفكير في رغباتنا؟ يجادل بعض الفلاسفة بأن الحرية تتطلب فقط القدرة على التصرف وفقًا لرغباتنا من الدرجة الأولى، بينما يرى آخرون أن الحرية الحقيقية تتطلب قدرة على التحكم في رغباتنا من الدرجة الأولى من خلال رغباتنا من الدرجة الثانية.

هناك أيضًا تحد يتعلق بما إذا كانت الإرادة من الدرجة العليا موجودة بالفعل في جميع الأفراد، أو فقط في أولئك الذين يمتلكون قدرًا معينًا من الوعي الذاتي والقدرة على التفكير النقدي. هل يمكن أن يكون لدى الأطفال الصغار أو الحيوانات رغبات من الدرجة العليا؟ هذه أسئلة معقدة تتطلب مزيدًا من البحث والتفكير.

تطبيقات الإرادة من الدرجة العليا

بالإضافة إلى أهميتها الفلسفية، للإرادة من الدرجة العليا تطبيقات عملية في مجالات مختلفة:

العلاج النفسي: يمكن أن تساعد الإرادة من الدرجة العليا في العلاج النفسي من خلال مساعدة الأفراد على فهم دوافعهم، وتحديد الأهداف، وتغيير السلوك. على سبيل المثال، العلاج السلوكي المعرفي (CBT) غالبًا ما يتضمن مساعدة المرضى على تحديد الأفكار والمعتقدات التي تسبب لهم المعاناة، ثم مساعدتهم على تغيير هذه الأفكار. هذا يمكن اعتباره نوعًا من العمل على رغباتهم من الدرجة الثانية.
التدريب: يمكن استخدام الإرادة من الدرجة العليا في التدريب لتشجيع الأفراد على تحديد أهدافهم، وتطوير الدافع، والتغلب على العقبات. المدربون غالبًا ما يساعدون الأفراد على تحديد ما يرغبون في تحقيقه حقًا، ثم مساعدتهم على تطوير الخطط والاستراتيجيات لتحقيق هذه الأهداف.
التسويق: يفهم المسوقون أهمية الإرادة من الدرجة العليا في التأثير على سلوك المستهلك. من خلال فهم رغبات المستهلكين من الدرجة الثانية (مثل الحاجة إلى الانتماء، أو تقدير الذات)، يمكن للمسوقين تصميم حملات إعلانية أكثر فعالية.
القيادة والإدارة: يمكن للقادة والمديرين استخدام فهمهم للإرادة من الدرجة العليا لتحفيز الموظفين، وبناء فرق عمل فعالة، وتحقيق الأهداف التنظيمية. من خلال فهم ما يريده الموظفون حقًا، يمكن للقادة تطوير استراتيجيات تحفزهم على العمل بجد وتحقيق النجاح.

الإرادة من الدرجة العليا والذكاء الاصطناعي

مع تطور الذكاء الاصطناعي، أصبحت مسألة الإرادة من الدرجة العليا ذات أهمية متزايدة. هل يمكن للآلات أن تمتلك رغبات من الدرجة الثانية؟ إذا كان الأمر كذلك، فما هي الآثار المترتبة على ذلك؟ هل يمكن للآلات أن تكون أخلاقية؟ هل يمكن أن تثق بها البشر؟

هذه أسئلة صعبة تتطلب منا التفكير في طبيعة الوعي، والذكاء، والأخلاق. إذا تمكنا من بناء آلات لديها رغبات من الدرجة الثانية، فسنكون بحاجة إلى التأكد من أنها تتوافق مع قيمنا وأهدافنا. خلاف ذلك، قد نواجه عواقب غير متوقعة.

الإرادة من الدرجة العليا وعلم الأعصاب

بالإضافة إلى الفلسفة، يتم استكشاف الإرادة من الدرجة العليا أيضًا من خلال علم الأعصاب. يستخدم العلماء تقنيات مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) لدراسة نشاط الدماغ أثناء اتخاذ القرارات، والتحكم في الذات، والتفكير في الرغبات. بعض الدراسات تشير إلى أن مناطق معينة من الدماغ، مثل القشرة الأمامية الجبهية، تلعب دورًا حاسمًا في الإرادة من الدرجة العليا. هذه الدراسات تساعدنا على فهم الأساس العصبي للإرادة، وكيف يمكن أن تتأثر بالإصابات، والأمراض، والاضطرابات النفسية.

يوفر علم الأعصاب أدلة ملموسة على العمليات المعرفية التي تدعم الإرادة من الدرجة العليا. من خلال تحديد المناطق الدماغية المشاركة في تقييم الرغبات، والتحكم في السلوك، واتخاذ القرارات، يمكننا الحصول على فهم أعمق لكيفية عمل الإرادة، وكيف يمكن أن تتعطل. هذا يمكن أن يؤدي إلى علاجات جديدة للاضطرابات النفسية، مثل الإدمان، والتي تتأثر بالإرادة من الدرجة العليا.

تحديات البحث المستقبلي

لا يزال هناك الكثير مما يجب تعلمه حول الإرادة من الدرجة العليا. بعض التحديات الرئيسية للبحث المستقبلي تشمل:

تطوير نماذج أفضل للإرادة: نحتاج إلى تطوير نماذج أكثر دقة للإرادة من الدرجة العليا، والتي يمكن أن تفسر مجموعة متنوعة من الظواهر، مثل التحكم في الذات، والأخلاق، والإدمان.
فهم الأساس العصبي للإرادة: يجب أن نواصل دراسة الدماغ لفهم كيفية عمل الإرادة من الدرجة العليا على المستوى العصبي.
استكشاف العلاقة بين الإرادة والوعي: نحتاج إلى فهم العلاقة بين الإرادة من الدرجة العليا والوعي الذاتي. هل الوعي ضروري للإرادة من الدرجة العليا؟
تطوير تطبيقات عملية: يجب أن نستمر في استكشاف التطبيقات العملية للإرادة من الدرجة العليا في مجالات مثل العلاج النفسي، والتدريب، والتسويق، والذكاء الاصطناعي.

خاتمة

الإرادة من الدرجة العليا هي مفهوم فلسفي معقد ومهم، يدرس طبيعة الرغبات والوعي الذاتي. إنها تمكننا من التفكير النقدي في رغباتنا، واختيار ما نريده حقًا، واتخاذ قرارات أخلاقية، وتحقيق التنمية الشخصية. على الرغم من وجود تحديات فلسفية وعلمية، فإن الإرادة من الدرجة العليا لها تطبيقات عملية في مجالات مختلفة. مع استمرارنا في استكشاف هذا المفهوم، نكتسب فهمًا أعمق لأنفسنا وعقولنا، وكيف يمكننا تحسين حياتنا.