السياق العام
لكي نفهم متى 15:20 بشكل كامل، من الضروري أن نضعها في سياقها الأوسع. يقع هذا النص ضمن فصل يتناول فيه يسوع مواجهة مع الكتبة والفريسيين حول مسألة التقليد والطقوس. كان الفريسيون والكتبة يصرون على الالتزام الدقيق بالتقاليد اليهودية، بما في ذلك غسل الأيدي قبل تناول الطعام. اعتبروا أن عدم القيام بذلك يجعل الإنسان نجساً.
بدأ الحوار عندما رأى تلاميذ يسوع أنهم لا يغسلون أيديهم قبل الأكل، مما أثار حفيظة الفريسيين. سألوا يسوع: “لماذا يتعدى تلاميذك تقليد الشيوخ؟ فإنهم لا يغسلون أيديهم حينما يأكلون خبزاً” (متى 15:2). أجاب يسوع بتوبيخهم، متهماً إياهم بالنفاق، لأنهم أهملوا وصايا الله من أجل التمسك بتقاليدهم الخاصة.
استشهد يسوع بإشعياء النبي، الذي تنبأ عنهم قائلاً: “هذا الشعب يكرمونني بأفواههم، وأما قلوبهم فمبتعدة عني. ولكن باطلاً يعبدونني، وهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس” (متى 15:8-9). ثم دعا يسوع الحشد إليه وشرح لهم أن ما يدخل الفم لا ينجس الإنسان، بل ما يخرج منه.
شرح الآية
متى 15:20 هي الجزء الأخير من هذه المناقشة، حيث يختتم يسوع شرحه لما ينجس الإنسان. يقول النص: “هذه هي التي تنجس الإنسان. وأما الأكل بأيد غير مغسولة فلا ينجس الإنسان”. هنا، يوضح يسوع أن الأشياء التي تخرج من القلب هي التي تجعل الإنسان نجساً، وليس الأفعال الخارجية مثل عدم غسل اليدين.
كلمة “تنجس” في هذا السياق تعني أن تجعل الإنسان غير لائق أمام الله. في الثقافة اليهودية القديمة، كان يُعتقد أن بعض الأشياء يمكن أن تجعل الإنسان نجساً جسدياً وطقسياً، مما يستبعده من المشاركة في العبادة أو المناسبات الدينية الأخرى. ومع ذلك، يركز يسوع على مفهوم أعمق للنجاسة، وهو الذي يأتي من الداخل.
يشير يسوع إلى أن الأفكار الشريرة، والقتل، والزنى، والسرقة، والشهادة الزور، والتجديف، هي التي تنجس الإنسان. هذه كلها تنبع من القلب، حيث توجد النية والدافع. فالأفعال الخارجية هي مجرد نتيجة لما يكمن في الداخل.
تأثير هذه الآية كان ثورياً في وقته. فقد تحدى يسوع الفهم التقليدي للطهارة والنجاسة، وأكد على أهمية الحالة الداخلية للقلب. لقد أظهر أن الله يهتم أكثر بما يحدث في داخل الإنسان، وليس مجرد الالتزام بالقواعد والطقوس الخارجية.
الأفكار الشريرة التي تنجس الإنسان
في الآيات السابقة لمتى 15:20، يوضح يسوع بالتفصيل الأفكار الشريرة التي تنجس الإنسان. من المهم أن نفهم هذه الأفكار الشريرة لنتمكن من فهم معنى الآية بشكل كامل. يذكر يسوع: “فإن من القلب تخرج أفكار شريرة، قتل، زنى، فسق، سرقة، شهادة زور، تجديف” (متى 15:19).
- الأفكار الشريرة: تشمل هذه كل أنواع الأفكار التي تتعارض مع وصايا الله ومحبته. يمكن أن تشمل الحقد، الغضب، الحسد، الكبرياء، والشهوات الشريرة.
- القتل: يشير إلى قتل الآخرين، سواء جسدياً أو روحياً. يمكن أن يشمل أيضاً الكراهية والتحامل والرغبة في إيذاء الآخرين.
- الزنى: يشير إلى العلاقات الجنسية غير الشرعية، بما في ذلك العلاقات خارج إطار الزواج.
- الفسق: يشمل كل أنواع السلوك الجنسي غير الأخلاقي، بما في ذلك الدعارة، الفحش، والانحلال.
- السرقة: تشير إلى أخذ ممتلكات الآخرين دون إذنهم، سواء كان ذلك عن طريق السرقة المادية أو الاحتيال.
- شهادة الزور: تشير إلى الكذب والافتراء على الآخرين.
- التجديف: يشير إلى الكلام المسيء أو المهين لله أو للأشياء المقدسة.
يوضح يسوع أن هذه الأفكار والأفعال تنبع من القلب. القلب هو مركز الشخصية، حيث تتشكل الأفكار والمشاعر والقرارات. إذا كان القلب ملوثاً بالشر، فإن الأفعال التي تنبع منه ستكون أيضاً شريرة.
أهمية الطهارة الداخلية
يركز يسوع في متى 15:20 على أهمية الطهارة الداخلية، وهي الطهارة التي تأتي من القلب. يوضح أن الطهارة الحقيقية لا تتحقق من خلال الالتزام بالقواعد والطقوس الخارجية، ولكن من خلال تغيير القلب. هذا يعني تطهير القلب من الأفكار الشريرة والاتجاه نحو الله ومحبته.
القلب النظيف هو القلب الذي يمتلئ بالحب، والرحمة، والتسامح، والإيمان. هو القلب الذي يسعى إلى طاعة الله والعيش وفقاً لوصاياه. الطهارة الداخلية تؤدي إلى أفعال صالحة، لأن الأفعال تنبع من القلب.
الفرق بين الطهارة الداخلية والخارجية واضح في هذا النص. الطهارة الخارجية تتعلق بالطقوس والالتزامات الخارجية، مثل غسل الأيدي. على الرغم من أن هذه الأشياء قد تكون مهمة من الناحية الصحية والنظافة، إلا أنها لا تجعل الإنسان صالحاً في نظر الله. الطهارة الداخلية، من ناحية أخرى، تتعلق بالحالة الروحية للإنسان. هي التي تجعله مقبولاً لدى الله.
تحقيق الطهارة الداخلية يتطلب التوبة، والإيمان، والتبعية ليسوع المسيح. يتطلب التخلي عن الأفكار الشريرة، والاعتراف بالخطايا، والسعي إلى الله في الصلاة. كما يتطلب السعي إلى تغيير القلب من خلال قوة الروح القدس.
تطبيق الآية في الحياة اليومية
متى 15:20 لها تأثير كبير على كيفية عيشنا لحياتنا اليومية. تدعونا الآية إلى فحص قلوبنا باستمرار والبحث عن أي أفكار أو دوافع شريرة قد تكون موجودة. إليك بعض التطبيقات العملية لهذه الآية:
- فحص القلب: خصص وقتاً منتظماً لفحص قلبك. اسأل نفسك عما تفكر فيه، وما تشعر به، وما هي دوافعك. هل هناك أفكار أو مشاعر سلبية تحتاج إلى التغيير؟
- التوبة: إذا اكتشفت أفكاراً شريرة أو دوافع خاطئة، تب إلى الله واعترف بخطاياك. اطلب منه المغفرة والقوة لتغيير قلبك.
- ملء القلب بالخير: بدلًا من التركيز على الأفكار الشريرة، املأ قلبك بالخير. اقرأ الكتاب المقدس، صل، وشارك في العبادة، وفكر في الأشياء التي هي حق، وشريفة، وعادلة، وطاهرة، ولطيفة، وحسنة السمعة (فيلبي 4:8).
- التركيز على النوايا: كن على دراية بنواياك في كل ما تفعله. هل دوافعك نقية؟ هل تسعى إلى إرضاء الله أم إرضاء نفسك؟
- التسامح والمحبة: مارس التسامح والمحبة تجاه الآخرين. عندما تشعر بالغضب أو المرارة، سامح وأطلق سراح هذه المشاعر السلبية. اطلب من الله أن يملأ قلبك بمحبته.
- التوبة والتغيير المستمر: لا تنظر إلى الطهارة الداخلية كحدث لمرة واحدة، بل كعملية مستمرة. استمر في النمو الروحي من خلال التوبة، والصلاة، والتبعية ليسوع المسيح.
باتباع هذه الخطوات، يمكننا أن نعيش حياة أكثر طهارة ومرضية لله. يمكننا أن نختبر فرح الطهارة الداخلية، ونرى تأثير ذلك على علاقاتنا وحياتنا بشكل عام.
الفرق بين التقاليد والوصايا
في هذا السياق، يفرق يسوع بوضوح بين التقاليد البشرية ووصايا الله. كان الفريسيون يولون أهمية كبيرة للتقاليد، معتقدين أنها ضرورية للحفاظ على الطهارة والتقوى. ومع ذلك، أصر يسوع على أن التقاليد غالبًا ما تتعارض مع وصايا الله.
التقاليد هي القواعد والممارسات التي وضعها البشر. قد تكون مفيدة في بعض الأحيان، ولكنها لا تحمل نفس السلطة الإلهية مثل وصايا الله. يمكن أن تكون التقاليد عرضة للتغيير والخطأ، ويمكن أن تؤدي إلى الرياء والاعتماد على المظاهر الخارجية.
الوصايا هي القواعد التي وضعها الله. تعبر عن إرادته وتقدم إرشادات للحياة الصالحة. الوصايا ثابتة وأزلية، وتُظهر لنا كيف نحب الله وكيف نحب الآخرين. في جوهرها، وصايا الله تهدف إلى حماية الإنسان وإرشاده نحو الحياة الأفضل.
يسوع انتقد الفريسيين لأنهم جعلوا التقاليد فوق وصايا الله. لقد أهملوا الوصايا الإلهية من أجل الالتزام الدقيق بالتقاليد البشرية. على سبيل المثال، استخدموا التقاليد لإلغاء وصية الله بإكرام الوالدين (متى 15:4-6).
درس مهم يمكن استخلاصه من هذا الموقف هو أنه يجب علينا دائمًا إعطاء الأولوية لوصايا الله على التقاليد البشرية. يجب أن نختبر التقاليد في ضوء كلمة الله، والتأكد من أنها لا تتعارض مع وصاياه. يجب أن نسعى جاهدين لعيش حياة تتوافق مع إرادة الله، وليس مع آراء وتقاليد الناس.
خاتمة
متى 15:20 هي آية جوهرية في فهمنا للطهارة والتقوى. تؤكد على أهمية الحالة الداخلية للقلب، وتشير إلى أن ما ينجس الإنسان ليس الأشياء الخارجية، مثل عدم غسل اليدين، بل الأفكار الشريرة التي تنبع من القلب. يدعونا هذا النص إلى فحص قلوبنا بانتظام، والتوبة عن خطايانا، والسعي إلى الله من أجل الطهارة الداخلية.
من خلال التركيز على الطهارة الداخلية، يمكننا أن نعيش حياة أكثر رضا لله، وأن نختبر فرح العلاقة الحقيقية معه. دعونا نسعى إلى فهم أعمق للمعنى الحقيقي للطهارة، ونجعل قلبنا نظيفًا من خلال نعمة الله.
المراجع
- Bible Gateway: Matthew 15:20
- Encyclopaedia Britannica: Gospel According to Matthew
- Got Questions: What does Matthew 15:20 mean?
- Christianity.com: Matthew 15:10-20 Commentary
“`