مقدمة
دير لا فرتيه (بالفرنسية: Abbaye de la Ferté) هو دير سيسترسيني تأسس عام 1113 في لا فرتيه سور جرون، في بلدية سان أمبرويل الحالية في منطقة بورغوندي-فرانش-كونتيه في فرنسا. كان واحداً من أقدم وأهم الأديرة السيسترسية، حيث كان بمثابة الابنة البكر لأهم دير سيسترسيني وهو دير سيسترسيوم. لعب الدير دوراً محورياً في انتشار الرهبنة السيسترسية في جميع أنحاء أوروبا، وكان له تأثير كبير على الحياة الدينية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة.
التاريخ والتأسيس
تأسس دير لا فرتيه في عام 1113 على يد الكونت رينارد الثاني من نيفير. جاءت فكرة تأسيس الدير استجابةً للحاجة إلى الإصلاح الديني والعودة إلى قيم البساطة والتقشف التي كانت تميز الرهبنة البينديكتينية الأصلية. كان الرهبان السيسترسيون يسعون إلى الابتعاد عن الثروة والسلطة التي اكتسبتها الأديرة البينديكتينية بمرور الوقت، والتركيز بدلاً من ذلك على الصلاة والعمل اليدوي والاكتفاء الذاتي.
تم اختيار موقع لا فرتيه بسبب موقعه الاستراتيجي على ضفاف نهر جرون، مما يسهل الوصول إلى المياه والنقل. كما أن المنطقة كانت تتميز بالهدوء والبعد عن صخب الحياة، مما يوفر بيئة مثالية للتأمل والعبادة.
كان أول رئيس للدير هو القديس ستيفن هاردينج، وهو راهب إنجليزي لعب دوراً حاسماً في تطوير الرهبنة السيسترسية. تحت قيادته، ازدهر الدير وأصبح نموذجاً للأديرة السيسترسية الأخرى.
أهمية الدير وانتشاره
باعتباره الابنة البكر لدير سيسترسيوم، لعب دير لا فرتيه دوراً حاسماً في انتشار الرهبنة السيسترسية في جميع أنحاء أوروبا. أسس دير لا فرتيه العديد من الأديرة التابعة له، والتي بدورها أسست المزيد من الأديرة، مما أدى إلى إنشاء شبكة واسعة من الأديرة السيسترسية في جميع أنحاء فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وإنجلترا وغيرها من البلدان.
كان دير لا فرتيه يتمتع بسلطة كبيرة على الأديرة التابعة له، وكان له الحق في تعيين رؤساء الأديرة والإشراف على شؤونها. كما كان الدير يلعب دوراً مهماً في حل النزاعات بين الأديرة التابعة له.
من بين الأديرة الشهيرة التي أسسها دير لا فرتيه:
- دير بونتيني (Pontigny Abbey)
- دير كليرفو (Clairvaux Abbey)
- دير موريوندو (Morimondo Abbey)
ساهمت هذه الأديرة بشكل كبير في نشر الرهبنة السيسترسية وتعزيز قيمها في جميع أنحاء أوروبا.
الحياة الرهبانية في الدير
كانت الحياة الرهبانية في دير لا فرتيه تتميز بالبساطة والتقشف. كان الرهبان يعيشون حياة منظمة للغاية، حيث يقضون معظم وقتهم في الصلاة والعمل اليدوي. كانوا يستيقظون في وقت مبكر من الصباح لحضور الصلوات، ويعملون في الحقول والمزارع خلال النهار، ويقضون المساء في القراءة والتأمل.
كان الرهبان يرتدون ملابس بسيطة مصنوعة من الصوف الخشن، ويتناولون وجبات طعام بسيطة تتكون من الخضروات والخبز والماء. كانوا يمتنعون عن تناول اللحوم والأسماك والبيض ومنتجات الألبان.
كان الرهبان يعيشون في صمت معظم الوقت، ويتواصلون مع بعضهم البعض عن طريق الإيماءات والإشارات. كانوا يعتقدون أن الصمت يساعدهم على التركيز على الصلاة والتأمل.
كان العمل اليدوي جزءاً أساسياً من الحياة الرهبانية في دير لا فرتيه. كان الرهبان يعملون في الحقول والمزارع، ويزرعون المحاصيل ويرعون الحيوانات. كما كانوا يقومون بأعمال النجارة والبناء والحدادة. كان العمل اليدوي يعتبر وسيلة لتوفير الغذاء والملبس للدير، وكذلك وسيلة للتعبير عن التواضع والخدمة.
هندسة الدير وفنه
تم بناء دير لا فرتيه على الطراز المعماري السيسترسيني، الذي يتميز بالبساطة والتقشف. كانت المباني مصنوعة من الحجر المحلي، وكانت تخلو من الزخارف والزينة المفرطة. كان الهدف من ذلك هو خلق بيئة تساعد الرهبان على التركيز على الصلاة والتأمل.
تضمنت المباني الرئيسية في الدير الكنيسة والدير والمكتبة وقاعة الطعام والنوم والمطبخ والمستوصف. كانت الكنيسة هي أهم مبنى في الدير، وكانت تستخدم لإقامة الصلوات والاحتفالات الدينية.
كان الدير عبارة عن ساحة داخلية محاطة بأربعة أروقة مغطاة. كانت الأروقة تستخدم للمشي والتأمل والقراءة. كانت المكتبة تحتوي على مجموعة كبيرة من الكتب والمخطوطات، وكانت تستخدم للدراسة والبحث.
على الرغم من أن الهندسة المعمارية السيسترسية كانت تتميز بالبساطة، إلا أن دير لا فرتيه كان يحتوي على بعض الأعمال الفنية الرائعة. كان الدير يضم العديد من اللوحات والمنحوتات والزجاج الملون التي تصور مشاهد من الكتاب المقدس وحياة القديسين.
الدور الاقتصادي والاجتماعي للدير
لعب دير لا فرتيه دوراً هاماً في الاقتصاد والمجتمع المحلي. كان الدير يمتلك مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، وكان ينتج كميات كبيرة من المحاصيل والمنتجات الحيوانية. كان الدير يبيع هذه المنتجات في الأسواق المحلية، ويستخدم الأموال التي يكسبها لدعم الرهبان وتمويل المشاريع الخيرية.
كما كان الدير يوفر فرص عمل للسكان المحليين. كان العديد من الفلاحين والعمال يعملون في حقول ومزارع الدير، ويكسبون رزقهم من خلال العمل لديه.
كان الدير يقدم أيضاً خدمات الرعاية الصحية والتعليم للسكان المحليين. كان الدير يضم مستوصفاً صغيراً يقدم العلاج للمرضى، ومدرسة تعلم الأطفال القراءة والكتابة.
بالإضافة إلى ذلك، كان الدير يلعب دوراً هاماً في الحفاظ على السلام والنظام في المنطقة. كان الدير يتمتع بنفوذ كبير على السلطات المحلية، وكان يستخدم هذا النفوذ لحل النزاعات ومنع الجرائم.
تدهور الدير وتدميره
بدأ دير لا فرتيه في التدهور في القرن الرابع عشر بسبب الحروب والأوبئة والأزمات الاقتصادية. أدت هذه العوامل إلى انخفاض عدد الرهبان وتراجع الموارد المالية للدير.
خلال الثورة الفرنسية في عام 1789، تم حل الدير ومصادرة ممتلكاته. تم بيع مباني الدير إلى الأفراد، وتم تدمير العديد من المباني أو تحويلها إلى استخدامات أخرى.
اليوم، لم يتبق من دير لا فرتيه سوى بعض الأطلال المتناثرة. ومع ذلك، لا تزال هذه الأطلال تشهد على عظمة هذا الدير وأهميته التاريخية.
إعادة إحياء الدير
في السنوات الأخيرة، كانت هناك جهود لإعادة إحياء دير لا فرتيه. تم إنشاء جمعية تهدف إلى الحفاظ على الأطلال وتعزيز تاريخ الدير. كما تم تنظيم العديد من الفعاليات الثقافية والدينية في موقع الدير.
تهدف هذه الجهود إلى الحفاظ على ذكرى دير لا فرتيه وإبراز دوره الهام في تاريخ الرهبنة السيسترسية وتاريخ فرنسا.
خاتمة
كان دير لا فرتيه ديراً سيسترسياً هاماً لعب دوراً محورياً في انتشار الرهبنة السيسترسية في جميع أنحاء أوروبا. تأسس الدير في عام 1113، وازدهر لعدة قرون، وكان له تأثير كبير على الحياة الدينية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة. على الرغم من أن الدير قد تم تدميره خلال الثورة الفرنسية، إلا أن ذكراه لا تزال حية، وهناك جهود لإعادة إحياء تاريخه وأهميته.