خلفية تاريخية
لفهم ظهور الطوائف الدينية في القرن السابع عشر في إنجلترا، من الضروري إلقاء نظرة على الخلفية التاريخية التي مهدت الطريق لذلك. في القرن السادس عشر، شهدت إنجلترا الإصلاح الإنجليزي، وهو انفصال الكنيسة الإنجليزية عن سلطة البابوية الكاثوليكية الرومانية. أدى هذا الانفصال إلى تأسيس كنيسة إنجلترا، وهي كنيسة بروتستانتية رسمية يرأسها الملك أو الملكة.
ومع ذلك، لم يرض هذا التغيير جميع الإنجليز. ظهرت حركات دينية مختلفة، مثل البيوريتانيين، الذين سعوا إلى تنقية الكنيسة الإنجليزية من بقايا الممارسات الكاثوليكية. اعتقد البيوريتانيون أن الكنيسة الإنجليزية لم تذهب بعيدًا بما فيه الكفاية في الإصلاح، ورغبوا في تبني مبادئ أكثر بروتستانتية. تعرض البيوريتانيون للاضطهاد في عهد الملك جيمس الأول وشارل الأول، مما أدى إلى هجرة أعداد كبيرة منهم إلى أمريكا الشمالية.
في بداية القرن السابع عشر، تفاقمت التوترات الدينية والسياسية في إنجلترا. تصاعدت الصراعات بين الملك والبرلمان، الذي كان يضم العديد من البيوريتانيين. أدت هذه الصراعات في النهاية إلى الحرب الأهلية الإنجليزية (1642-1651)، وهي صراع دموي بين الملكيين (مؤيدي الملك) والبرلمانيين (مؤيدي البرلمان).
أبرز الطوائف الدينية
شهد القرن السابع عشر ظهور العديد من الطوائف الدينية في إنجلترا. فيما يلي أبرزها:
- البيوريتانيون (Puritans): كانوا حركة دينية إصلاحية داخل الكنيسة الإنجليزية. سعى البيوريتانيون إلى تنقية الكنيسة من الممارسات الكاثوليكية، والتركيز على الوعظ بالكتاب المقدس، والعيش وفقًا لمبادئ دينية صارمة. انقسم البيوريتانيون إلى فصائل مختلفة، بما في ذلك المشيخيين (Presbyterians) والاستقلاليين (Independents).
- المشيخيون (Presbyterians): كانوا فصيلًا من البيوريتانيين الذين أيدوا نظامًا كنسيًا قائمًا على المجالس (presbyteries)، والتي تتكون من القساوسة والشيوخ. لعب المشيخيون دورًا مهمًا في الثورة الإنجليزية، وكانوا يمثلون قوة سياسية كبيرة في البرلمان.
- الاستقلاليون (Independents) أو المجمعون (Congregationalists): آمنوا باستقلالية كل كنيسة محلية، ورفضوا أي سلطة مركزية على الكنائس. كان للاستقلاليين تأثير كبير في الجيش البرلماني، ولعبوا دورًا مهمًا في تأسيس الكومنولث الإنجليزي بعد إعدام الملك تشارلز الأول.
- الكويكرز (Quakers) أو جمعية الأصدقاء (Religious Society of Friends): تأسست في منتصف القرن السابع عشر على يد جورج فوكس. رفض الكويكرز الطقوس الرسمية، وآمنوا بالتجربة الدينية الداخلية، والمساواة بين جميع الناس. اشتهر الكويكرز بمعارضتهم للعنف، وتأكيدهم على الصدق والبساطة في الحياة.
- المعمدانيون (Baptists): ظهروا في إنجلترا في أوائل القرن السابع عشر. آمن المعمدانيون بالمعمودية بالإيمان (أي تعميد البالغين الذين يعلنون إيمانهم)، ورفضوا معمودية الأطفال. انقسم المعمدانيون إلى فصائل مختلفة، بما في ذلك المعمدانيون العامون (Arminian Baptists) والمعمدانيون الخاصون (Calvinistic Baptists).
- الرافضون (Levellers): لم يكونوا طائفة دينية بالمعنى الدقيق للكلمة، بل كانوا حركة سياسية اجتماعية. طالب الرافضون بالمساواة في الحقوق والفرص، والإصلاح الديمقراطي. كان لهم تأثير كبير خلال الحرب الأهلية الإنجليزية، على الرغم من قمعهم في النهاية.
- الحفارون (Diggers): كانت حركة طوباوية راديكالية نشأت خلال الحرب الأهلية الإنجليزية. آمن الحفارون بالملكية المشتركة للأرض، وحاولوا زراعة الأراضي المشتركة. تعرض الحفارون للقمع، لكن أفكارهم أثرت على الحركات الاجتماعية اللاحقة.
أسباب ظهور الطوائف
تعددت الأسباب التي أدت إلى ظهور هذه الطوائف الدينية في إنجلترا في القرن السابع عشر. ومن أبرز هذه الأسباب:
- الإصلاح الديني: أدت حركة الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر إلى تقويض سلطة الكنيسة الكاثوليكية، وفتح الباب أمام تفسيرات جديدة للكتاب المقدس. شجع هذا على ظهور حركات دينية مختلفة، تسعى إلى تطبيق مبادئ الإصلاح.
- الاضطهاد الديني: تعرض العديد من الطوائف الدينية للاضطهاد من قبل الكنيسة الإنجليزية والحكومة. دفع هذا الاضطهاد أتباع هذه الطوائف إلى البحث عن أماكن أخرى لممارسة دينهم بحرية، مما أدى إلى هجرتهم إلى أمريكا الشمالية وتأسيس مستعمرات جديدة.
- الصراعات السياسية: تفاقمت التوترات الدينية والسياسية في إنجلترا في القرن السابع عشر. أدت الصراعات بين الملك والبرلمان إلى الحرب الأهلية الإنجليزية، مما أتاح فرصة لظهور حركات دينية مختلفة.
- التغيرات الاجتماعية: شهدت إنجلترا تغيرات اجتماعية كبيرة في القرن السابع عشر، بما في ذلك صعود طبقة وسطى جديدة، ونمو المدن. ساهمت هذه التغيرات في زعزعة التقاليد القديمة، وظهور أفكار جديدة.
تأثير الطوائف الدينية
تركت الطوائف الدينية في القرن السابع عشر تأثيرًا كبيرًا على المجتمع الإنجليزي. ومن أبرز هذه التأثيرات:
- التأثير على السياسة: لعبت الطوائف الدينية دورًا مهمًا في السياسة الإنجليزية. شارك البيوريتانيون في البرلمان، وأيدوا الثورة الإنجليزية. أثرت أفكارهم على تطور الديمقراطية وحقوق الإنسان.
- التأثير على المجتمع: ساهمت الطوائف الدينية في تشكيل القيم والأخلاق في المجتمع الإنجليزي. شجعت على العمل الجاد، والصدق، والبساطة في الحياة. كما لعبت دورًا مهمًا في التعليم والرعاية الاجتماعية.
- التأثير على الثقافة: أثرت الطوائف الدينية على الفنون والأدب. أنتج البيوريتانيون أعمالًا أدبية مهمة، مثل “الفردوس المفقود” لجون ميلتون. كما أثرت أفكارهم على تطور الموسيقى والأدب.
- التأثير على العالم: هاجر العديد من أتباع الطوائف الدينية إلى أمريكا الشمالية، حيث أسسوا مستعمرات جديدة. ساهموا في تشكيل المجتمع الأمريكي، وأثروا على تطور الديمقراطية وحقوق الإنسان.
الحرب الأهلية الإنجليزية وتأثيرها
كانت الحرب الأهلية الإنجليزية فترة حاسمة في تاريخ الطوائف الدينية. خلال هذه الحرب، أصبحت الطوائف المختلفة أكثر وضوحًا، وتبنت مواقف مختلفة من الصراع. على سبيل المثال، كان المشيخيون يميلون إلى دعم البرلمان، بينما انقسم الاستقلاليون، مع وجود بعضهم في صفوف البرلمان وآخرين في صفوف الملكيين.
بعد إعدام الملك تشارلز الأول عام 1649، تأسس الكومنولث الإنجليزي، وهي جمهورية يحكمها البرلمان. خلال هذه الفترة، تمتع البيوريتانيون بنفوذ كبير، وحاولوا فرض قيمهم الدينية على المجتمع. ومع ذلك، لم يكن هذا الوضع دائمًا، ومع استعادة الملكية عام 1660، تعرضت العديد من الطوائف الدينية للاضطهاد مرة أخرى.
الاضطهاد الديني
بعد استعادة الملكية، عاد الملك تشارلز الثاني إلى الحكم، وأعيدت الكنيسة الإنجليزية إلى وضعها السابق ككنيسة رسمية. تم فرض قوانين صارمة ضد غير الملتزمين (أي أولئك الذين رفضوا الانصياع للكنيسة الرسمية). تعرض العديد من أتباع الطوائف الدينية للاضطهاد، وسجنوا، ونفوا. ومع ذلك، استمرت هذه الطوائف في الوجود، وحافظت على معتقداتها وتقاليدها.
التسامح الديني
على الرغم من الاضطهاد، بدأت تظهر بوادر التسامح الديني في نهاية القرن السابع عشر. أصدر الملك جيمس الثاني إعلانًا بالتسامح الديني عام 1687، والذي منح بعض الحقوق لغير الملتزمين. بعد الثورة المجيدة عام 1688، تم إقرار قانون التسامح عام 1689، والذي منح حرية العبادة لغير الملتزمين، باستثناء الكاثوليكيين. كان هذا القانون خطوة مهمة نحو التسامح الديني في إنجلترا.
أهمية دراسة الطوائف الدينية في القرن السابع عشر
دراسة الطوائف الدينية في القرن السابع عشر لها أهمية كبيرة. فهي تساعدنا على فهم:
- تطور الدين: تعلمنا هذه الدراسة عن التطورات المعقدة في الدين، وكيف تتغير المعتقدات والممارسات الدينية استجابة للتغيرات الاجتماعية والسياسية.
- تاريخ إنجلترا: تقدم لنا هذه الدراسة نظرة أعمق على تاريخ إنجلترا، وكيف شكلت الطوائف الدينية السياسة والمجتمع والثقافة.
- أصول الديمقراطية: تظهر لنا هذه الدراسة كيف ساهمت أفكار بعض الطوائف الدينية، مثل البيوريتانيين، في تطور الديمقراطية وحقوق الإنسان.
- أهمية التسامح الديني: تعلمنا هذه الدراسة أهمية التسامح الديني، وكيف يمكن أن يؤدي الاضطهاد الديني إلى العنف والمعاناة.
خاتمة
شهد القرن السابع عشر في إنجلترا فترة تحول ديني واجتماعي عميق. برزت خلال هذه الفترة العديد من الطوائف الدينية الجديدة، التي تركت بصمة واضحة على تاريخ البلاد. كانت هذه الطوائف نتاجًا لمجموعة متنوعة من العوامل، بما في ذلك الإصلاح الديني، والصراعات السياسية، والتغيرات الاجتماعية. على الرغم من تعرضها للاضطهاد في بعض الأحيان، إلا أن هذه الطوائف استمرت في الوجود، وأثرت على تطور المجتمع الإنجليزي والعالم بأسره. إن دراسة هذه الطوائف تساعدنا على فهم تطور الدين، وتاريخ إنجلترا، وأصول الديمقراطية، وأهمية التسامح الديني.
المراجع
- موسوعة بريتانيكا: الحروب الأهلية الإنجليزية
- موقع هيستوري: البيوريتانيون
- بي بي سي تاريخ: البيوريتانيون
- المكتبة البريطانية: القرن السابع عشر في إنجلترا
“`