مقدمة
إنجيل لوقا الإصحاح الثالث عشر هو جزء من العهد الجديد في الكتاب المقدس المسيحي. يعتبر هذا الإصحاح حلقة وصل مهمة في سرد حياة يسوع المسيح وتعليمه، حيث يتضمن مجموعة من الأمثال والتحذيرات التي تحمل في طياتها دروسًا روحية عميقة. يتناول الإصحاح مواضيع متنوعة مثل التوبة، والدينونة، وقيمة الحياة، وأهمية اغتنام الفرص المتاحة. يسلط الضوء على رحمة الله وعدله، ويدعو الناس إلى التأمل في حالتهم الروحية والاستعداد لمواجهة المستقبل.
التوبة والتحذير من الهلاك
يبدأ الإصحاح الثالث عشر بحدثين مأساويين: الأول يتعلق بأشخاص قتلهم بيلاطس البنطي أثناء تقديمهم الذبائح، والثاني بسقوط برج سلوام الذي أودى بحياة ثمانية عشر شخصًا. يستخدم يسوع هذه الأحداث ليحذر الناس من الاعتقاد بأن هؤلاء الضحايا كانوا أشر من غيرهم، بل يؤكد أن الجميع معرضون للهلاك إذا لم يتوبوا عن خطاياهم. هذه الدعوة إلى التوبة هي دعوة شاملة للجميع، بغض النظر عن خلفياتهم أو أفعالهم.
“أقول لكم: لا! بل إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون” (لوقا 13: 3). هذه الكلمات تعبر عن حقيقة أن التوبة ليست مجرد خيار، بل هي ضرورة حتمية لتجنب الدينونة الأبدية. التوبة الحقيقية تتضمن الاعتراف بالخطأ، والندم عليه، والابتعاد عنه، والالتزام بحياة جديدة في طاعة الله.
مثل شجرة التين غير المثمرة
بعد التحذير من الهلاك، يقدم يسوع مثلًا عن شجرة تين غير مثمرة زرعت في كرم. يأتي صاحب الكرم ليتفقدها بعد ثلاث سنوات ولا يجد فيها ثمرًا، فيأمر بقطعها. لكن الكرام يطلب منحه فرصة أخرى، فيقوم بتسميدها وتقليمها على أمل أن تثمر في العام القادم. إذا لم تثمر، فسيتم قطعها في النهاية.
هذا المثل يحمل عدة معاني:
- صبر الله ورحمته: يمثل صاحب الكرم الله الذي يمنح الناس فرصًا متكررة للتوبة والإصلاح.
- واجب الإنسان في إثمار الروح: تمثل شجرة التين الإنسان الذي يجب أن ينتج ثمارًا صالحة تعكس الإيمان الحقيقي.
- خطورة الإهمال الروحي: عدم إثمار الشجرة يؤدي في النهاية إلى قطعها، مما يرمز إلى الدينونة الأبدية.
إن الفرصة التي يمنحها الكرام للشجرة هي فرصة ثمينة يجب اغتنامها. يجب على كل شخص أن يفحص حياته الروحية ويتأكد من أنه يثمر أعمالًا صالحة ترضي الله.
الشفاء في يوم السبت
في أحد أيام السبت، كان يسوع يعلم في المجمع، وكانت هناك امرأة مصابة بروح ضعف منذ ثماني عشرة سنة. كانت منحنية ولا تقدر أن تستقيم البتة. لما رآها يسوع، دعاها وقال لها: “يا امرأة، إنك محلولة من ضعفك”. ووضع عليها يديه، ففي الحال استقامت ومجدت الله.
غضب رئيس المجمع لأنه شفى في يوم السبت، وقال للجمع: “هي ستة أيام ينبغي فيها أن يعمل، ففي هذه ائتوا واستشفوا وليس في يوم السبت”. فأجابه يسوع: “يا مرائي، ألا يحل كل واحد منكم في السبت ثوره أو حماره من المذود ويمضي به ويسقيه؟ وهذه ابنة إبراهيم قد ربطها الشيطان ثماني عشرة سنة، أما كان ينبغي أن تحل من هذا الرباط في يوم السبت؟”.
يوضح هذا الحدث أن الرحمة والإحسان أهم من التمسك الحرفي بالقوانين. إن عمل الخير ومساعدة المحتاجين لا يتعارضان مع حفظ السبت، بل هما جزء أساسي من الشريعة. يسوع ينتقد النفاق والرياء الذي يظهره قادة الدين، الذين يهتمون بالمظاهر الخارجية أكثر من الاهتمام بالقلوب.
مثل حبة الخردل والخميرة
بعد ذلك، يروي يسوع مثلين قصيرين: مثل حبة الخردل ومثل الخميرة.
- مثل حبة الخردل: يشبه يسوع ملكوت الله بحبة خردل صغيرة جدًا، لكنها عندما تزرع تنمو وتصبح شجرة كبيرة تأوي إليها الطيور. هذا المثل يوضح كيف أن بداية ملكوت الله قد تبدو صغيرة وغير مهمة، لكنها ستنمو وتنتشر في كل مكان.
- مثل الخميرة: يشبه يسوع ملكوت الله بالخميرة التي تخمر الدقيق كله. هذا المثل يوضح كيف أن ملكوت الله يعمل بهدوء وبشكل غير ملحوظ، لكنه يحدث تغييرًا جذريًا في حياة الناس وفي العالم.
هذان المثلان يعطيان الرجاء والأمل، ويؤكدان أن ملكوت الله سينتصر في النهاية، رغم كل الصعاب والتحديات.
الدخول من الباب الضيق
بينما كان يسوع يمضي في القرى والمدن يعلم ويسافر نحو أورشليم، سأله واحد: “يا سيد، أقليل هم الذين يخلصون؟”. فقال لهم: “اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق، فإني أقول لكم: إن كثيرين سيطلبون أن يدخلوا ولا يقدرون”.
هذا التحذير يوضح أن الخلاص ليس أمرًا مضمونًا، بل يتطلب جهدًا وتصميمًا. الباب الضيق يرمز إلى الطريق الصعب الذي يؤدي إلى الحياة الأبدية، والذي يتطلب التوبة، والإيمان، والالتزام بوصايا الله. الكثيرون يسعون إلى الخلاص بطرق سهلة ومريحة، لكنهم يفشلون في النهاية لأنهم لا يبذلون الجهد اللازم.
“متى قام رب البيت وأغلق الباب، فابتدأتم تقفون خارجًا وتقرعون الباب قائلين: يا رب، يا رب، افتح لنا! يجيب ويقول لكم: لا أعرفكم من أين أنتم! حينئذ تبتدئون تقولون: أكلنا قدامك وشربنا، وعلمت في شوارعنا! فيقول: أقول لكم: لا أعرفكم من أين أنتم! تباعدوا عني يا جميع فاعلي الإثم!” (لوقا 13: 25-27). هذه الكلمات تذكرنا بأهمية العمل الصالح والعيش باستقامة، وليس فقط التظاهر بالتدين.
الرثاء على أورشليم
ينهي يسوع الإصحاح الثالث عشر بالرثاء على أورشليم، المدينة التي سترفضه وتقتله. يعبر عن حزنه العميق لعدم استجابة أهلها لدعوته إلى التوبة والخلاص.
“يا أورشليم، يا أورشليم! يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا! هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا! وأقول لكم: إنكم لا ترونني حتى يأتي وقت تقولون فيه: مبارك الآتي باسم الرب!” (لوقا 13: 34-35). هذه الكلمات تعبر عن الحب العميق الذي يكنه يسوع لشعبه، وعن الأسف الشديد الذي يشعر به بسبب رفضهم له.
خاتمة
إنجيل لوقا الإصحاح الثالث عشر يقدم لنا مجموعة من الدروس الروحية القيمة التي تدعونا إلى التوبة، والإيمان، والعمل الصالح. يحذرنا من خطورة الإهمال الروحي والتمسك الحرفي بالقوانين، ويذكرنا بأهمية الرحمة والإحسان. يشجعنا على اغتنام الفرص المتاحة للدخول من الباب الضيق المؤدي إلى الحياة الأبدية، ويوضح لنا أن ملكوت الله سينتصر في النهاية، رغم كل الصعاب والتحديات. هذا الإصحاح دعوة للتأمل في حالتنا الروحية والاستعداد لمواجهة المستقبل بثقة ورجاء.