خلفية تاريخية
في أواخر العهد العثماني، كان العراق، كغيره من المناطق العربية، يشهد تدهورًا في أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. تفاقمت هذه الأوضاع بسبب سياسات التتريك التي فرضتها الحكومة العثمانية، والتي استهدفت محو الهويات الثقافية واللغوية غير التركية. أدت هذه السياسات إلى نشوء حركات معارضة في مختلف أنحاء الإمبراطورية، بما في ذلك العراق. كان الضباط العراقيون في الجيش العثماني، الذين كانوا على اتصال مباشر بالواقع السياسي والاجتماعي، يشعرون بالإحباط من هذه الأوضاع، ورأوا في تأسيس جمعية سرية وسيلة لتحقيق التغيير.
كانت الظروف التي سبقت تأسيس جمعية العهد مهيأة لظهور مثل هذه الحركات. كان هناك تزايد في الوعي القومي العربي، وتأثر الضباط العراقيون بالأفكار القومية التي انتشرت في ذلك الوقت. بالإضافة إلى ذلك، أدت الانتصارات العسكرية التي حققها الجيش العثماني في البلقان إلى زيادة ثقة الضباط العراقيين بأنفسهم وبقدرتهم على قيادة التغيير. هذه العوامل مجتمعة أدت إلى تأسيس جمعية العهد.
تأسيس وأهداف جمعية العهد
تأسست جمعية العهد في إسطنبول عام 1913. كان الهدف الأساسي للجمعية هو تحقيق الاستقلال الذاتي للعراق، والعمل على إقامة نظام حكم مستقل يعتمد على مبادئ العدالة والمساواة. سعى الأعضاء إلى تحقيق هذه الأهداف من خلال عدة وسائل، بما في ذلك: نشر الوعي القومي، وتوحيد الصفوف، والتواصل مع القوى الإقليمية والدولية. كان من بين الأعضاء المؤسسين شخصيات بارزة مثل نوري السعيد، الذي أصبح لاحقًا رئيس وزراء العراق عدة مرات، وجعفر العسكري، الذي شغل مناصب قيادية في الجيش والحكومة العراقية.
وضعت جمعية العهد برنامجًا عمليًا لتحقيق أهدافها. تضمن هذا البرنامج:
- تأسيس المدارس والمؤسسات الثقافية لنشر الوعي القومي واللغوي.
- التواصل مع الزعامات الدينية والعشائرية لتوحيد الصفوف.
- التخطيط للتحرك السياسي والعسكري عند الحاجة.
- التواصل مع الحلفاء المحتملين من أجل الحصول على الدعم.
أعضاء بارزون وتأثيرهم
كان أعضاء جمعية العهد من النخبة المثقفة والقيادات العسكرية في العراق. كان هؤلاء الأعضاء يتمتعون بنفوذ كبير في المجتمع العراقي، ولعبوا دورًا حاسمًا في توجيه الرأي العام. من أبرز الأعضاء:
- نوري السعيد: كان له دور قيادي في الجمعية، وشغل منصب رئيس وزراء العراق لعدة مرات، ولعب دورًا محوريًا في السياسة العراقية في فترة ما بعد الاستقلال.
- جعفر العسكري: كان ضابطًا بارزًا في الجيش، وشغل مناصب وزارية مهمة، وكان له دور كبير في بناء الجيش العراقي الحديث.
- ياسين الهاشمي: كان سياسيًا بارزًا، وشغل منصب رئيس الوزراء، وكان له دور في صياغة السياسات الوطنية.
- رشيد عالي الكيلاني: كان سياسيًا بارزًا، وقاد حركة المقاومة ضد الاحتلال البريطاني في فترة لاحقة.
ساهم هؤلاء القادة في نشر أفكار الجمعية وتعزيزها، وقاموا بتجنيد المزيد من الأعضاء، وتوسيع نطاق تأثيرها. كانت رؤيتهم تعتمد على بناء دولة عراقية مستقلة ذات سيادة، تحترم حقوق جميع المواطنين.
التعاون مع الحلفاء وتأثير الحرب العالمية الأولى
عند اندلاع الحرب العالمية الأولى، سعت جمعية العهد إلى التعاون مع الحلفاء، خاصة بريطانيا، لتحقيق أهدافها. رأت الجمعية في بريطانيا حليفًا محتملًا في مواجهة الحكم العثماني. أجرى أعضاء الجمعية اتصالات مع البريطانيين، ووعدوا بدعمهم في الحرب مقابل الحصول على وعود بالاستقلال بعد انتهاء الحرب. لعبت الجمعية دورًا في التمهيد للثورة العربية الكبرى التي بدأت في عام 1916، والتي كان لها تأثير كبير على مسار الأحداث في المنطقة.
شاركت جمعية العهد في العمليات العسكرية ضد العثمانيين، وقدمت الدعم اللوجستي والمعلوماتي للحلفاء. كان لهذا التعاون تأثير كبير على سير الحرب، وساهم في هزيمة الدولة العثمانية. ومع ذلك، بعد انتهاء الحرب، خيبت بريطانيا آمال العراقيين، حيث لم تلتزم بوعودها بمنح العراق الاستقلال الكامل. بدلاً من ذلك، فرضت بريطانيا الانتداب على العراق، مما أدى إلى نشوب صراعات جديدة.
جمعية العهد في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، تحولت جمعية العهد من منظمة سرية إلى قوة سياسية بارزة في العراق. لعب أعضاؤها دورًا مهمًا في صياغة الدستور العراقي، وتأسيس المؤسسات الحكومية. كما شاركوا في الحركات الوطنية التي طالبت بالاستقلال الكامل. على الرغم من خيبة الأمل التي سببتها بريطانيا، استمرت الجمعية في العمل من أجل تحقيق أهدافها، من خلال المشاركة في العملية السياسية، ودعم الحركات الشعبية.
واجهت جمعية العهد تحديات كبيرة في فترة ما بعد الحرب. كان عليها أن تتعامل مع الاحتلال البريطاني، والانقسامات الطائفية والعرقية، والصراعات الداخلية. ومع ذلك، تمكنت الجمعية من الحفاظ على دورها القيادي في المجتمع العراقي، والمساهمة في بناء الدولة العراقية الحديثة. استمرت الجمعية في التأثير على السياسة العراقية حتى بعد حصول العراق على الاستقلال في عام 1932.
إرث جمعية العهد
تركت جمعية العهد إرثًا دائمًا في تاريخ العراق. لقد ساهمت في:
- تأسيس الوعي القومي العراقي: من خلال نشر الأفكار القومية، وتوحيد الصفوف، وتعزيز الهوية العراقية.
- المشاركة في الحركات الوطنية: من خلال توفير القيادة والدعم للحركات التي طالبت بالاستقلال.
- بناء المؤسسات الحكومية: من خلال المشاركة في صياغة الدستور، وتأسيس المؤسسات الحكومية.
- تشكيل النخبة السياسية: من خلال تدريب وتأهيل القادة الذين شغلوا مناصب مهمة في الدولة العراقية.
تعتبر جمعية العهد رمزًا للتضحية والإخلاص في سبيل الوطن. يذكر التاريخ الدور الذي لعبته في بناء الدولة العراقية الحديثة، وفي تشكيل الوعي الوطني الذي لا يزال يؤثر على العراق حتى اليوم.
خاتمة
كانت جمعية العهد حركة سياسية مهمة في تاريخ العراق، لعبت دورًا حاسمًا في تشكيل الوعي القومي العراقي والتحضير للاستقلال. تأسست في إسطنبول عام 1913 من قبل ضباط عراقيين في الجيش العثماني، وسعت لتحقيق الاستقلال الذاتي للعراق وتأسيس نظام حكم مستقل. تعاونت الجمعية مع الحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى، لكنها واجهت تحديات كبيرة بعد الحرب. على الرغم من ذلك، تركت الجمعية إرثًا دائمًا في تاريخ العراق، من خلال مساهمتها في بناء الدولة الحديثة وتشكيل النخبة السياسية. لا تزال أهدافها ومبادئها تلهم العراقيين حتى اليوم.