مقدمة
كان تدخل الولايات المتحدة في الثورة المكسيكية متنوعًا ومتناقضًا على ما يبدو، حيث دعمت في البداية ثم تراجعت عن بعض الفصائل المتنافسة في سعيها لتحقيق الاستقرار في المكسيك وحماية المصالح الأمريكية. امتدت الثورة المكسيكية من عام 1910 إلى عام 1920، وكانت فترة من الاضطرابات السياسية والاجتماعية العميقة في المكسيك. نظرًا لأن الولايات المتحدة والمكسيك تتشاركان حدودًا طويلة وكانت الولايات المتحدة هي الشريك التجاري الرئيسي للمكسيك، فقد كان للثورة المكسيكية تأثير كبير على الولايات المتحدة. أدى التدخل الأمريكي إلى تعقيد مسار الثورة، مما أثر على نتائجها وعلاقات البلدين.
الأسباب والدوافع الأمريكية للتدخل
كانت هناك عدة أسباب دفعت الولايات المتحدة إلى التدخل في الثورة المكسيكية:
- حماية المصالح الاقتصادية: كان لدى الولايات المتحدة استثمارات كبيرة في المكسيك، بما في ذلك في النفط والتعدين والزراعة. سعت الحكومة الأمريكية إلى حماية هذه الاستثمارات من الأضرار الناجمة عن الثورة.
- ضمان الاستقرار الحدودي: خشيت الولايات المتحدة من أن تؤدي الثورة إلى عدم الاستقرار على طول الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، مما قد يؤدي إلى تدفق اللاجئين والعنف عبر الحدود.
- التأثير السياسي: أرادت الولايات المتحدة الحفاظ على نفوذها في المكسيك والتأكد من أن الحكومة المكسيكية المستقبلية ستكون صديقة للولايات المتحدة.
- المصالح الأمنية: مع تصاعد الحرب العالمية الأولى، سعت الولايات المتحدة إلى ضمان عدم تحالف المكسيك مع ألمانيا ضدها.
مراحل التدخل الأمريكي
مر التدخل الأمريكي في الثورة المكسيكية بعدة مراحل:
1. الدعم الأولي لـ “فرانسيسكو ماديرو”: في البداية، دعمت الولايات المتحدة فرانسيسكو ماديرو، الذي قاد الثورة ضد الدكتاتور بورفيريو دياز. اعتقدت الولايات المتحدة أن ماديرو سيجلب الاستقرار والديمقراطية إلى المكسيك.
2. الإطاحة بماديرو: في عام 1913، أطاح الجنرال “فيكتوريانو ويرتا” بماديرو وقتله. رفضت الولايات المتحدة الاعتراف بحكومة “ويرتا” بسبب الطريقة غير الديمقراطية التي وصل بها إلى السلطة.
3. الاحتلال الأمريكي لفيراكروز: في عام 1914، احتلت الولايات المتحدة ميناء فيراكروز ردًا على حادثة تتعلق بالبحارة الأمريكيين. كان الهدف من الاحتلال هو منع وصول الأسلحة إلى حكومة “ويرتا”.
4. دعم “فينوستيانو كارانزا”: بعد سقوط “ويرتا”، دعمت الولايات المتحدة “فينوستيانو كارانزا”، الذي قاد الفصيل الدستوري في الثورة. اعتقدت الولايات المتحدة أن “كارانزا” هو أفضل أمل في تحقيق الاستقرار في المكسيك.
5. حملة “بونشو فيا”: بعد أن فقد “بونشو فيا” دعم الولايات المتحدة، قام بشن غارات على المدن الحدودية الأمريكية في عام 1916. أرسلت الولايات المتحدة حملة عسكرية بقيادة الجنرال “جون بيرشينغ” لمطاردة “فيا”، لكنها فشلت في القبض عليه.
الاحتلال الأمريكي لفيراكروز (1914)
كان احتلال فيراكروز عام 1914 من أهم الأحداث في تدخل الولايات المتحدة في الثورة المكسيكية. في أبريل 1914، اعتقلت القوات المكسيكية عددًا من البحارة الأمريكيين في تامبيكو. على الرغم من إطلاق سراح البحارة لاحقًا، طالب الأدميرال “هنري مايو” بتحية رسمية للعلم الأمريكي كاعتذار. رفض الرئيس المكسيكي “فيكتوريانو ويرتا” هذا الطلب.
استغل الرئيس الأمريكي “وودرو ويلسون” هذا الحادث كذريعة لإرسال قوات إلى فيراكروز. كان الهدف المعلن هو منع وصول شحنة أسلحة ألمانية إلى حكومة “ويرتا”. في 21 أبريل 1914، نزلت القوات الأمريكية في فيراكروز واستولت على المدينة بعد معركة شرسة مع القوات المكسيكية.
أثار الاحتلال ردود فعل غاضبة في جميع أنحاء المكسيك وأمريكا اللاتينية. اعتبر الكثيرون أن الاحتلال انتهاك للسيادة المكسيكية. استمر الاحتلال حتى نوفمبر 1914، عندما تم سحب القوات الأمريكية بعد سقوط حكومة “ويرتا”.
حملة بيرشينغ (1916-1917)
بعد أن فقد “بونشو فيا” دعم الولايات المتحدة، بدأ في شن غارات على المدن الحدودية الأمريكية. في مارس 1916، هاجم “فيا” مدينة كولومبوس بولاية نيو مكسيكو، مما أسفر عن مقتل 17 أمريكيًا. ردًا على ذلك، أرسل الرئيس “ويلسون” حملة عسكرية بقيادة الجنرال “جون بيرشينغ” لمطاردة “فيا” في المكسيك.
توغلت حملة “بيرشينغ” في عمق الأراضي المكسيكية، لكنها فشلت في القبض على “فيا”. واجهت الحملة مقاومة من السكان المحليين ومن قوات “كارانزا”، الذي اعتبر الوجود الأمريكي انتهاكًا للسيادة المكسيكية. تم سحب القوات الأمريكية في فبراير 1917 دون تحقيق هدفها.
تأثير التدخل الأمريكي
كان للتدخل الأمريكي في الثورة المكسيكية تأثير كبير على مسار الثورة ونتائجها:
- إطالة أمد الثورة: ربما أدى التدخل الأمريكي إلى إطالة أمد الثورة من خلال دعم فصائل مختلفة وتقويض جهود تحقيق السلام والاستقرار.
- تفاقم المشاعر المعادية لأمريكا: أدى التدخل الأمريكي إلى تفاقم المشاعر المعادية لأمريكا في المكسيك، مما أثر على العلاقات بين البلدين لعقود قادمة.
- تشويه صورة الولايات المتحدة: أدى التدخل الأمريكي إلى تشويه صورة الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية، حيث اعتبره الكثيرون دليلًا على الإمبريالية الأمريكية.
- التأثير على الدستور المكسيكي: ساهمت الثورة المكسيكية، بما في ذلك التدخل الأمريكي، في صياغة دستور 1917، الذي كان يهدف إلى حماية المصالح المكسيكية وتقليل النفوذ الأجنبي.
دور الدبلوماسية
على الرغم من استخدام القوة العسكرية، لعبت الدبلوماسية دورًا حاسمًا في علاقة الولايات المتحدة بالثورة المكسيكية. سعى الرؤساء الأمريكيون، وخاصة “وودرو ويلسون”، إلى التأثير على الأحداث في المكسيك من خلال الاعتراف الدبلوماسي والضغط السياسي. كان الاعتراف بحكومة “كارانزا” بمثابة تحول كبير في السياسة الأمريكية، مما أثر على التوازن الداخلي للسلطة في المكسيك.
المصالح النفطية
كانت المصالح النفطية عاملاً مهمًا في تدخل الولايات المتحدة في الثورة المكسيكية. اكتشفت كميات كبيرة من النفط في المكسيك في أوائل القرن العشرين، وسرعان ما أصبحت الولايات المتحدة مستوردًا رئيسيًا للنفط المكسيكي. سعت الشركات النفطية الأمريكية إلى حماية مصالحها في المكسيك، وضغطت على الحكومة الأمريكية للتدخل في الثورة لحماية هذه المصالح.
أثار دستور عام 1917، الذي سعى إلى تأميم الموارد الطبيعية، قلق الولايات المتحدة والشركات النفطية الأمريكية. أدى هذا إلى توترات دبلوماسية بين البلدين واستمر في التأثير على العلاقات بينهما لعقود.
تداعيات الحرب العالمية الأولى
أثرت الحرب العالمية الأولى بشكل كبير على تدخل الولايات المتحدة في الثورة المكسيكية. مع انشغال الولايات المتحدة بالحرب في أوروبا، تضاءل اهتمامها بالثورة المكسيكية. سعت الولايات المتحدة إلى ضمان عدم تحالف المكسيك مع ألمانيا، وهو ما تجلى في برقية “زيمرمان” الشهيرة التي عرضت على المكسيك استعادة الأراضي التي خسرتها أمام الولايات المتحدة في مقابل التحالف مع ألمانيا.
أدت الحرب العالمية الأولى إلى تسريع انسحاب القوات الأمريكية من المكسيك وتغيير أولويات السياسة الخارجية الأمريكية.
خاتمة
كان تدخل الولايات المتحدة في الثورة المكسيكية حدثًا معقدًا ومتعدد الأوجه. كان مدفوعًا بمجموعة متنوعة من العوامل، بما في ذلك المصالح الاقتصادية والأمنية والسياسية. كان للتدخل الأمريكي تأثير كبير على مسار الثورة ونتائجها، مما أدى إلى إطالة أمدها وتفاقم المشاعر المعادية لأمريكا. لا تزال هذه الفترة تشكل العلاقات بين الولايات المتحدة والمكسيك حتى اليوم.