<![CDATA[
مقدمة
يُعد مفهوم حفظ القديسين المشروط، أو الثبات المشروط للقديسين، أو الأمن المشروط كما هو شائع، عقيدة لاهوتية تثير جدلاً واسعاً في المسيحية. يتعلق هذا المفهوم بإمكانية فقدان المؤمن لخلاصه، بمعنى آخر، هل يمكن لشخص نال الخلاص بالفعل أن يرتد عنه ويفقد علاقته الأبدية بالله؟ تتباين الآراء حول هذا السؤال بشكل كبير بين الطوائف المسيحية المختلفة، حيث يتمسك البعض بمفهوم “الأمن الأبدي” أو “الثبات المطلق للقديسين”، بينما يؤمن البعض الآخر بإمكانية فقدان الخلاص المشروط.
مفهوم حفظ القديسين المشروط
يدور جوهر مفهوم حفظ القديسين المشروط حول فكرة أن استمرار المؤمن في الإيمان والطاعة هو شرط ضروري للحفاظ على الخلاص الذي ناله. بمعنى آخر، الخلاص ليس مضموناً بشكل آلي أو غير مشروط، بل يتطلب من المؤمن أن يظل ثابتاً في إيمانه وأن يتبع وصايا الله. وفقاً لهذا المفهوم، فإن الارتداد عن الإيمان أو الانغماس في الخطية بشكل مستمر دون توبة يمكن أن يؤدي إلى فقدان الخلاص.
النقاط الرئيسية في مفهوم حفظ القديسين المشروط:
- الخلاص ليس مضموناً بشكل غير مشروط: لا يتم الحصول على الخلاص مرة واحدة وإلى الأبد بغض النظر عن سلوك المؤمن اللاحق.
- الإيمان والطاعة شرطان ضروريان: يتطلب الحفاظ على الخلاص استمرار المؤمن في الإيمان النشط والعيش حياة الطاعة لوصايا الله.
- إمكانية الارتداد: يمكن للمؤمن أن يختار الابتعاد عن الله ورفض الإيمان، مما يؤدي إلى فقدان الخلاص.
- التوبة ضرورية: إذا أخطأ المؤمن، فالتوبة والرجوع إلى الله هما السبيل لاستعادة العلاقة الصحيحة والحفاظ على الخلاص.
الحجج الكتابية المؤيدة لحفظ القديسين المشروط
يستند المؤيدون لحفظ القديسين المشروط إلى العديد من النصوص الكتابية التي يرون أنها تشير إلى إمكانية فقدان الخلاص. من بين هذه النصوص:
- عبرانيين 6: 4-6: “لأَنَّ الَّذِينَ اسْتُنِيرُوا مَرَّةً، وَذَاقُوا الْمَوْهِبَةَ السَّمَاوِيَّةَ، وَصَارُوا شُرَكَاءَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَذَاقُوا كَلِمَةَ اللهِ الصَّالِحَةَ وَقُوَّاتِ الدَّهْرِ الآتِي، وَسَقَطُوا، لاَ يُمْكِنُ تَجْدِيدُهُمْ أَيْضاً لِلتَّوْبَةِ، إِذْ هُمْ يَصْلِبُونَ لأَنْفُسِهِمِ ابْنَ اللهِ ثَانِيَةً وَيُشَهِّرُونَهُ.” يُفسر هذا النص على أنه يشير إلى أشخاص اختبروا حقيقة الإيمان المسيحي ثم ارتدوا عنه، مما يدل على إمكانية فقدان الخلاص.
- عبرانيين 10: 26-27: “فَإِنَّهُ إِنْ أَخْطَأْنَا بِاخْتِيَارِنَا بَعْدَمَا أَخَذْنَا مَعْرِفَةَ الْحَقِّ، فَلَمْ تَبْقَ بَعْدُ ذَبِيحَةٌ عَنِ الْخَطَايَا، بَلْ قُبُولُ دَيْنُونَةٍ مُخِيفٌ، وَغَيْرَةُ نَارٍ عَتِيدَةٍ أَنْ تَأْكُلَ الْمُضَادِّينَ.” يُفهم هذا النص على أنه تحذير للمؤمنين من الاستمرار في الخطية بعد معرفة الحق، حيث أن ذلك سيؤدي إلى دينونة.
- رومية 11: 22: “فَانْظُرْ لُطْفَ اللهِ وَصَرَامَتَهُ: أَمَّا الصَّرَامَةُ فَعَلَى الَّذِينَ سَقَطُوا، وَأَمَّا اللُّطْفُ فَلَكَ، إِنْ ثَبَتَّ فِي اللُّطْفِ، وَإِلاَّ فَأَنْتَ أَيْضاً سَتُقْطَعُ.” يُظهر هذا النص أن البقاء في لطف الله مشروط بالثبات في الإيمان، وإلا فإن المؤمن سيُقطع.
- يوحنا 15: 6: “إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَثْبُتُ فِيَّ، يُطْرَحُ خَارِجاً كَالْغُصْنِ، فَيَجِفُّ وَيَجْمَعُونَهُ وَيَطْرَحُونَهُ فِي النَّارِ، فَيَحْتَرِقُ.” يُشبه هذا النص المؤمن الذي لا يثبت في المسيح بالغصن الذي يُقطع ويُحرق، مما يشير إلى فقدان الخلاص.
- حزقيال 18: 24: “وَإِذَا ارْتَدَّ الْبَارُّ عَنْ بِرِّهِ وَعَمِلَ إِثْماً وَفَعَلَ مِثْلَ كُلِّ الرَّجَاسَاتِ الَّتِي يَفْعَلُهَا الشِّرِّيرُ، فَهَلْ يَحْيَا؟ كُلُّ بِرِّهِ الَّذِي عَمِلَهُ لاَ يُذْكَرُ. فِي خِيَانَتِهِ الَّتِي خَانَهَا وَفِي خَطِيَّتِهِ الَّتِي أَخْطَأَ بِهَا يَمُوتُ.” يوضح هذا النص أن الشخص البار إذا ارتد عن بره وعمل إثماً فإنه سيموت في خطيئته.
الاعتراضات على حفظ القديسين المشروط والردود عليها
يواجه مفهوم حفظ القديسين المشروط العديد من الاعتراضات من قبل المؤمنين بمفهوم الأمن الأبدي. من بين هذه الاعتراضات:
- نصوص الوعد بالخلاص الأبدي: يشير المؤمنون بالأمن الأبدي إلى العديد من النصوص الكتابية التي تعد بالخلاص الأبدي، مثل يوحنا 10: 28-29 (“وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. أَبِي الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ، وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي.”) والرد على ذلك هو أن هذه النصوص تتحدث عن قوة الله في حفظ المؤمن، ولكنها لا تنفي مسؤولية المؤمن في الثبات في الإيمان.
- مفهوم النعمة المجانية: يرى البعض أن مفهوم حفظ القديسين المشروط يقلل من أهمية نعمة الله المجانية، حيث أنه يجعل الخلاص يعتمد على أعمال المؤمن. والرد على ذلك هو أن الإيمان والطاعة هما ثمرة النعمة، وليسا عملاً يستحق الخلاص.
- صعوبة تحديد الارتداد الحقيقي: يرى البعض صعوبة تحديد ما إذا كان الشخص قد ارتد فعلاً عن الإيمان، أم أنه يمر بفترة ضعف أو تجربة. والرد على ذلك هو أن الله وحده هو الذي يعلم القلب، ولكن الارتداد الحقيقي يظهر في تغيير جذري في السلوك ورفض الإيمان المسيحي.
تفسير النصوص الكتابية
يعتمد النقاش حول حفظ القديسين المشروط بشكل كبير على تفسير النصوص الكتابية المتعلقة بالخلاص والأمن الأبدي. يرى المؤيدون لحفظ القديسين المشروط أن النصوص التي تتحدث عن إمكانية فقدان الخلاص يجب أن تؤخذ على محمل الجد، وأنها تحذر المؤمنين من التراخي في الإيمان. بينما يرى المؤيدون للأمن الأبدي أن هذه النصوص يجب أن تُفهم في ضوء النصوص الأخرى التي تعد بالخلاص الأبدي، وأنها لا تنفي قدرة الله على حفظ المؤمن إلى النهاية.
منهجيات تفسير النصوص الكتابية:
- التفسير الحرفي: يركز على المعنى الظاهر للنص، مع مراعاة السياق اللغوي والتاريخي.
- التفسير المجازي: يرى أن بعض النصوص تحمل معنى مجازياً أو رمزياً، وأنها لا يجب أن تؤخذ حرفياً.
- التفسير السياقي: يركز على فهم النص في سياقه الأوسع، مع مراعاة الأهداف والمقاصد العامة للكتاب المقدس.
العيش في نور الحقيقة
بغض النظر عن الرأي الذي يتبناه المؤمن بشأن حفظ القديسين المشروط، فإن الأهم هو أن يعيش في نور الحقيقة وأن يسعى إلى إرضاء الله في كل ما يفعله. يجب على المؤمن أن يحرص على الثبات في الإيمان والعيش حياة الطاعة، وأن يتجنب الخطية وأن يتوب عنها إذا أخطأ. يجب أيضاً أن يتذكر أن الخلاص هو نعمة من الله، وأن الفضل كله يعود إليه.
نصائح للعيش في نور الحقيقة:
- دراسة الكتاب المقدس بانتظام: يساعد الكتاب المقدس على فهم إرادة الله وتطبيقها في الحياة اليومية.
- الصلاة المستمرة: تساعد الصلاة على التواصل مع الله وطلب معونته في مواجهة التحديات.
- الشركة مع المؤمنين الآخرين: تساعد الشركة مع المؤمنين الآخرين على التشجيع والنمو الروحي.
- الخدمة في الكنيسة والمجتمع: تساعد الخدمة على التعبير عن المحبة للآخرين ونشر رسالة الإنجيل.
خاتمة
إن مفهوم حفظ القديسين المشروط هو موضوع معقد يتطلب دراسة متأنية للكتاب المقدس والصلاة والتفكير العميق. سواء تبنى المؤمن هذا المفهوم أو مفهوم الأمن الأبدي، فإن الأهم هو أن يعيش حياة الإيمان والطاعة، وأن يسعى إلى إرضاء الله في كل ما يفعله. يجب أن نتذكر دائماً أن الخلاص هو نعمة من الله، وأن الفضل كله يعود إليه. يجب أن نحرص على الثبات في الإيمان والعيش حياة القداسة، وأن نتجنب الخطية وأن نتوب عنها إذا أخطأنا.