نشأته وحياته
ولد شمس الدين السخاوي في القاهرة عام 831 هـ الموافق 1428م. نشأ في أسرة متدينة ومثقفة، مما ساهم في توجيهه نحو طلب العلم منذ صغره. بدأ السخاوي تعليمه بحفظ القرآن الكريم، ثم اتجه لدراسة العلوم الشرعية واللغة العربية على أيدي كبار العلماء في عصره. كان يتمتع بذكاء حاد وذاكرة قوية، مما مكنه من التفوق في دراسته وتحصيل العلم بسرعة.
تتلمذ السخاوي على يد العديد من العلماء البارزين، منهم الحافظ ابن حجر العسقلاني، الذي كان له تأثير كبير على تكوينه العلمي والفكري. كما درس على يد الشيخ تقي الدين الشمني، والشيخ محب الدين القسطلاني، وغيرهم من العلماء الذين ساهموا في صقل شخصيته العلمية. سافر السخاوي إلى العديد من البلدان الإسلامية، مثل دمشق ومكة والمدينة، وذلك لطلب العلم ولقاء العلماء والمحدثين.
عاش السخاوي حياة حافلة بالعلم والعمل، حيث أمضى معظم وقته في التأليف والتدريس والقراءة. كان يتميز بالتواضع والزهد والإخلاص في عمله، مما جعله محبوبًا ومحترمًا من قبل الجميع. تولى السخاوي العديد من المناصب العلمية، حيث عمل مدرسًا في الجامع الأزهر، وفي العديد من المدارس الأخرى في القاهرة. كما عمل قاضيًا في بعض الأحيان، ولكنه كان يفضل التفرغ للعلم والتأليف.
مكانته العلمية
يُعتبر السخاوي من كبار علماء الحديث في عصره، حيث كان يتمتع بمعرفة واسعة بعلوم الحديث، مثل علم الرجال، وعلم العلل، وعلم الجرح والتعديل. كان حافظًا متقنًا للأحاديث النبوية، ولديه قدرة فائقة على تمييز الصحيح من الضعيف. كما كان يتمتع بذاكرة قوية، مما مكنه من حفظ الكثير من الأحاديث وأسماء الرواة.
لم تقتصر مكانة السخاوي العلمية على علم الحديث فقط، بل كان له إسهامات كبيرة في مجالات أخرى، مثل التاريخ والتراجم والأدب. كان مؤرخًا متميزًا، حيث ألف العديد من الكتب التاريخية التي تناولت تاريخ مصر والشام والبلاد الإسلامية الأخرى. كما كان مترجمًا بارعًا، حيث ترجم العديد من الكتب من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية. وكان أديبًا وشاعرًا، حيث كتب العديد من القصائد والمقالات الأدبية.
حظي السخاوي بتقدير كبير من قبل العلماء والباحثين في عصره، حيث كانوا يعتبرونه من الأئمة المجددين والعلماء العاملين. وقد أثنى عليه العديد من العلماء، منهم السيوطي، وابن تغري بردي، والشوكاني، وغيرهم. كما أن مؤلفاته لا تزال مرجعًا هامًا للباحثين والدارسين في مختلف المجالات العلمية.
مؤلفاته
ترك السخاوي خلفه عددًا كبيرًا من المؤلفات، التي تتنوع بين كتب الحديث والتاريخ والتراجم والأدب. ومن أبرز مؤلفاته:
- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع: وهو من أشهر كتب التراجم، حيث ترجم فيه لأكثر من ألف عالم وشاعر وأديب عاشوا في القرن التاسع الهجري.
- التبر المسبوك في ذيل السلوك: وهو ذيل لكتاب “السلوك لمعرفة دول الملوك” للمقريزي، ويتناول تاريخ مصر في الفترة من سنة 845 هـ إلى سنة 875 هـ.
- الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر: وهو كتاب في ترجمة شيخه الحافظ ابن حجر العسقلاني، ويعد من أهم المصادر التي تناولت حياة ابن حجر وآثاره.
- تحفة الأحباب وبغية الطلاب في الخطط والمزارات والتراجم: وهو كتاب يتناول تاريخ القاهرة وخططها، ويتضمن تراجم لعدد من العلماء والأدباء الذين عاشوا فيها.
- المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة: وهو كتاب في علم الحديث، يهدف إلى بيان صحة الأحاديث المشتهرة على الألسنة وتخريجها.
- إعلان التوبيخ لمن ذم التاريخ: وهو كتاب يدافع عن علم التاريخ وأهميته، ويرد على من يذمه وينتقص من شأنه.
بالإضافة إلى هذه المؤلفات، للسخاوي العديد من الكتب والرسائل الأخرى في مختلف المجالات العلمية، والتي تدل على غزارة إنتاجه العلمي وسعة اطلاعه.
منهجه العلمي
اتبع السخاوي منهجًا علميًا دقيقًا في تأليفاته، حيث كان يعتمد على المصادر الأصلية والموثوقة، ويتحرى الدقة في نقل المعلومات. كان يتميز بالتحليل والتعليل، حيث لم يكن يكتفي بنقل المعلومات مجردة، بل كان يحلل الأحداث ويعلل الأسباب ويستخلص النتائج. كما كان يتميز بالإنصاف والتجرد، حيث لم يكن يتعصب لرأيه أو لمذهبه، بل كان يعرض الآراء المختلفة ويناقشها بموضوعية.
في علم الحديث، كان السخاوي يعتمد على قواعد علم الجرح والتعديل في تقييم الرواة، وكان يتحرى الدقة في تخريج الأحاديث وبيان درجتها من الصحة والضعف. وفي التاريخ، كان يعتمد على المصادر التاريخية الموثوقة، ويقارن بين الروايات المختلفة، ويحلل الأحداث التاريخية بمنهج علمي دقيق. وفي الأدب، كان يتميز بالذوق الرفيع والأسلوب الجزل، وكان يختار الألفاظ بعناية ويعبر عن المعاني بوضوح.
تلاميذه
تتلمذ على يد السخاوي العديد من العلماء والطلاب، الذين استفادوا من علمه وأخلاقه. ومن أبرز تلاميذه:
- السيوطي: وهو من كبار العلماء والمؤرخين والأدباء المصريين، وقد تتلمذ على يد السخاوي في علم الحديث والتاريخ.
- ابن إياس: وهو مؤرخ مصري شهير، وصاحب كتاب “بدائع الزهور في وقائع الدهور”، وقد تتلمذ على يد السخاوي في التاريخ.
- زكريا الأنصاري: وهو من كبار العلماء الشافعية، وقد تتلمذ على يد السخاوي في الفقه والأصول.
- داود بن سليمان: وهو عالم ومحدث، وقد تتلمذ على يد السخاوي في علم الحديث.
وقد ساهم هؤلاء التلاميذ في نشر علم السخاوي وتراثه، وحملوا رسالته العلمية من بعده.
وفاته
توفي شمس الدين السخاوي في القاهرة عام 902 هـ الموافق 1497م، عن عمر يناهز الواحد والسبعين عامًا. وقد خلف وراءه إرثًا علميًا كبيرًا، ومكانة مرموقة في قلوب العلماء والطلاب. وقد رثاه العديد من الشعراء والعلماء، وأثنوا على علمه وفضله.
خاتمة
شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي كان عالمًا موسوعيًا ومؤرخًا متميزًا ومحدثًا متقنًا. ترك بصمة واضحة في عصره، وأثرى المكتبة الإسلامية بمؤلفاته القيمة. يُعتبر السخاوي نموذجًا للعالم العامل الذي جمع بين العلم والعمل، وبين الزهد والتواضع، وبين الإخلاص والتفاني. سيبقى السخاوي رمزًا للعلم والعلماء، وقدوة للأجيال القادمة.