خلفية وتاريخ المقطوعة
في أواخر الخمسينيات، كان مايلز ديفيس يسعى إلى استكشاف آفاق جديدة في عالم موسيقى الجاز، بعيدًا عن القيود الهارمونية التي كانت سائدة في ذلك الوقت. كان يبحث عن طريقة لتبسيط الهيكل الموسيقي، ومنح العازفين مزيدًا من الحرية في الارتجال والتعبير عن أنفسهم. قاده هذا البحث إلى تطوير مفهوم الجاز المودالي، الذي يعتمد على استخدام السلالم الموسيقية (Modes) كإطار أساسي للتأليف والارتجال.
تم تسجيل “ماذا في ذلك؟” في الثاني من مارس عام 1959، في استوديوهات كولومبيا 30 ستريت في مدينة نيويورك. ضم فريق التسجيل إلى جانب مايلز ديفيس نخبة من ألمع نجوم الجاز في ذلك العصر، بمن فيهم: جوليان “كانونبول” أديرلي (ساكسفون ألتو)، وجون كولترين (ساكسفون تينور)، وبيل إيفانز ووينتون كيلي (بيانو)، وبول تشامبرز (باص)، وجيمي كوب (طبول).
التركيب الموسيقي
تتميز “ماذا في ذلك؟” ببساطة تركيبها الموسيقي وجمالها الآسر. تعتمد المقطوعة على سلم دوريان (Dorian Mode) في مقام ري (D)، وهو سلم موسيقي ذو طابع حزين ومؤثر. يتكون الهيكل الأساسي للمقطوعة من قسمين رئيسيين:
- القسم الأول (A): يعتمد على سلم دوريان في مقام ري (D Dorian).
- القسم الثاني (B): ينتقل إلى سلم دوريان في مقام مي مسطحة (Eb Dorian)، مما يخلق تباينًا هارمونيًا لطيفًا.
تتكرر هذه الأقسام بالتناوب، مما يوفر أساسًا متينًا للعازفين للارتجال واستكشاف الإمكانيات الموسيقية الكامنة في السلم المودالي.
الأداء والارتجال
يكمن جمال “ماذا في ذلك؟” في الأداء المذهل للعازفين والارتجال المتقن الذي يميزها. يقدم مايلز ديفيس عزفًا ساحرًا على البوق، يتميز بالنغمات الهادئة والمؤثرة والقدرة على التعبير عن المشاعر العميقة. يبرز أيضًا أداء كانونبول أديرلي وجون كولترين على الساكسفون، حيث يقدمان ارتجالات مليئة بالإبداع والطاقة.
يُعتبر أداء بيل إيفانز على البيانو عنصرًا أساسيًا في نجاح المقطوعة. يستخدم إيفانز أسلوبًا رقيقًا ومتقنًا في العزف، ويخلق جوًا من الغموض والجمال يتماشى تمامًا مع الطابع العام للمقطوعة. بالإضافة إلى ذلك، يوفر بول تشامبرز وجيمي كوب إيقاعًا ثابتًا ومتقنًا يدعم العازفين ويمنحهم الحرية في الارتجال.
التأثير والأهمية
أحدثت “ماذا في ذلك؟” ثورة في عالم موسيقى الجاز، وأثرت على أجيال من الموسيقيين. ساهمت المقطوعة في انتشار مفهوم الجاز المودالي، وفتحت الباب أمام استكشاف أساليب جديدة في التأليف والارتجال. لقد ألهمت “ماذا في ذلك؟” العديد من الفنانين لدمج العناصر المودالية في أعمالهم، مما أدى إلى ظهور مجموعة متنوعة من الأساليب والتجارب الموسيقية.
بالإضافة إلى تأثيرها الموسيقي، تحمل “ماذا في ذلك؟” أهمية ثقافية كبيرة. تُعتبر المقطوعة تعبيرًا عن روح العصر في أواخر الخمسينيات، حيث كانت الولايات المتحدة تشهد تحولات اجتماعية وسياسية عميقة. تعكس “ماذا في ذلك؟” الرغبة في التحرر من القيود والتعبير عن الذات بحرية، وهي قيم لا تزال ذات صلة حتى يومنا هذا.
تحليل موسيقي مفصل
يمكن تحليل “ماذا في ذلك؟” موسيقيًا على عدة مستويات، بدءًا من الهيكل الأساسي للمقطوعة وصولًا إلى التفاصيل الدقيقة في الأداء والارتجال.
- الهيكل: تعتمد المقطوعة على هيكل بسيط يتكون من قسمين رئيسيين (A و B) يتكرران بالتناوب. هذا الهيكل البسيط يسمح للعازفين بالتركيز على الارتجال والتعبير عن أنفسهم بحرية.
- الهارمونية: تعتمد المقطوعة على السلالم المودالية بدلاً من التتابعات الهارمونية التقليدية. يوفر سلم دوريان (Dorian Mode) أساسًا هارمونيًا فريدًا يسمح للعازفين باستكشاف مجموعة واسعة من الألوان والظلال الموسيقية.
- الإيقاع: يتميز إيقاع المقطوعة بالهدوء والاسترخاء، مما يخلق جوًا من التأمل والغموض. يوفر الإيقاع الثابت والمتقن أساسًا متينًا للعازفين للارتجال والتعبير عن أنفسهم بحرية.
- اللحن: يتميز لحن المقطوعة بالبساطة والجمال، ويعتمد على النغمات الهادئة والمؤثرة. يعكس اللحن الطابع العام للمقطوعة، وهو مزيج من الحزن والأمل.
“ماذا في ذلك؟” في الثقافة الشعبية
ظهرت “ماذا في ذلك؟” في العديد من الأفلام والبرامج التلفزيونية، مما ساهم في انتشارها وشعبيتها. كما تم استخدام المقطوعة في الإعلانات التجارية والألعاب الإلكترونية، مما يدل على تأثيرها الدائم في الثقافة الشعبية.
بالإضافة إلى ذلك، قام العديد من الفنانين بإعادة تسجيل “ماذا في ذلك؟” بأساليب مختلفة، مما يدل على جاذبيتها العالمية وقدرتها على التكيف مع مختلف الأذواق الموسيقية.
نصائح للاستماع
لتقدير “ماذا في ذلك؟” بشكل كامل، يُنصح بالاستماع إليها في بيئة هادئة ومريحة. يمكن التركيز على الأداء الفردي لكل عازف، ومحاولة فهم العلاقة بين العازفين وكيف يتفاعلون مع بعضهم البعض. كما يمكن التركيز على الجوانب الموسيقية المختلفة للمقطوعة، مثل الهيكل والهارمونية والإيقاع واللحن.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن مقارنة “ماذا في ذلك؟” بأعمال أخرى لمايلز ديفيس أو فنانين آخرين في مجال الجاز المودالي. هذا يمكن أن يساعد في فهم السياق التاريخي والثقافي للمقطوعة، وتقدير أهميتها وتأثيرها.
تأثيرها على موسيقى الجاز الحديثة
لا يزال تأثير “ماذا في ذلك؟” محسوسًا في موسيقى الجاز الحديثة. ألهمت المقطوعة العديد من الموسيقيين لدمج العناصر المودالية في أعمالهم، مما أدى إلى ظهور مجموعة متنوعة من الأساليب والتجارب الموسيقية. كما ساهمت “ماذا في ذلك؟” في تطوير أساليب جديدة في الارتجال والعزف، ولا تزال تُدرس وتُستمع على نطاق واسع حتى يومنا هذا.
لماذا تعتبر تحفة فنية؟
“ماذا في ذلك؟” ليست مجرد مقطوعة جاز عادية، بل هي تحفة فنية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. تتميز المقطوعة بالعديد من الصفات التي تجعلها فريدة ومميزة:
- البساطة: على الرغم من بساطة تركيبها الموسيقي، إلا أن “ماذا في ذلك؟” تتميز بالعمق والتأثير.
- الجمال: تتميز المقطوعة بجمالها الآسر وقدرتها على إثارة المشاعر العميقة.
- الإبداع: يتميز أداء العازفين بالإبداع والارتجال المتقن.
- التأثير: أحدثت المقطوعة ثورة في عالم موسيقى الجاز وأثرت على أجيال من الموسيقيين.
- الخلود: لا تزال المقطوعة تُستمع وتُدرس على نطاق واسع حتى يومنا هذا، مما يدل على تأثيرها الدائم.
خاتمة
“ماذا في ذلك؟” هي أكثر من مجرد مقطوعة موسيقية؛ إنها تحفة فنية تجسد روح الإبداع والابتكار في عالم الجاز. بفضل تركيبها المبتكر، وأدائها المذهل، وتأثيرها العميق، تظل “ماذا في ذلك؟” علامة فارقة في تاريخ الموسيقى، ومصدر إلهام للأجيال القادمة من الموسيقيين.