خلفية تاريخية
في منتصف القرن التاسع عشر، كانت كوبا لا تزال تحت السيطرة الإسبانية، وكانت تمثل مركزًا تجاريًا هامًا في منطقة البحر الكاريبي. كانت الولايات المتحدة تسعى جاهدة لزيادة تجارتها مع كوبا، ولكن القيود التجارية الإسبانية كانت تعيق هذه الجهود. بالإضافة إلى ذلك، كانت قضية العبودية تمثل نقطة خلاف رئيسية بين البلدين، حيث كانت العبودية لا تزال ممارسة قانونية في كوبا، بينما كانت الولايات المتحدة تشهد انقسامًا داخليًا حول هذه القضية.
تزامنت هذه التوترات مع سياسة التوسع الإقليمي التي اتبعتها الولايات المتحدة، والتي عُرفت باسم “القدر المتجلّي” (Manifest Destiny). كان العديد من الأمريكيين يعتقدون أن من حق الولايات المتحدة التوسع والسيطرة على أراضٍ جديدة في القارة الأمريكية، بما في ذلك كوبا. وقد أدى هذا الاعتقاد إلى زيادة الضغوط على الحكومة الأمريكية لاتخاذ موقف أكثر حزمًا تجاه إسبانيا.
تفاصيل الحادثة
في 28 فبراير 1854، بينما كانت السفينة التجارية الأمريكية “بلاك واريور” (Black Warrior) راسية في ميناء هافانا في كوبا، قام المسؤولون الإسبان بتفتيش السفينة واكتشفوا شحنة من القطن. زعم المسؤولون الإسبان أن السفينة لم تقم بالإبلاغ عن هذه الشحنة بشكل صحيح، وقاموا بمصادرة السفينة وشحنتها. أثار هذا الإجراء غضبًا شديدًا في الولايات المتحدة، واعتبره الكثيرون انتهاكًا للحقوق التجارية الأمريكية.
كانت السفينة “بلاك واريور” مملوكة لشركة تجارية مقرها في نيويورك، وكانت تقوم برحلات تجارية منتظمة بين الولايات المتحدة وكوبا. كانت السفينة تحمل شحنات من القطن والسلع الأخرى، وكانت تلعب دورًا هامًا في التجارة بين البلدين. مصادرة السفينة ألحقت خسائر مالية كبيرة بالشركة المالكة، وأثارت مخاوف بين التجار الأمريكيين بشأن مستقبل تجارتهم مع كوبا.
ردود الفعل في الولايات المتحدة
انتشر خبر مصادرة السفينة “بلاك واريور” بسرعة في جميع أنحاء الولايات المتحدة، وأثار موجة من الغضب والاستياء. طالبت الصحف والسياسيون باتخاذ إجراءات صارمة ضد إسبانيا، ودعا البعض إلى إعلان الحرب. رأى الكثيرون في هذا الحادث فرصة لتوسيع النفوذ الأمريكي في منطقة البحر الكاريبي والاستيلاء على كوبا.
تأثر الرأي العام الأمريكي بشدة بالتقارير الإخبارية التي صورت الحادثة على أنها عمل عدواني من قبل إسبانيا. طالب العديد من المواطنين الحكومة الأمريكية بالدفاع عن الحقوق التجارية الأمريكية وحماية مصالحها في الخارج. كما أثارت الحادثة مخاوف بشأن سلامة البحارة والتجار الأمريكيين الذين يسافرون إلى كوبا.
في الكونجرس الأمريكي، دعا العديد من النواب والشيوخ إلى اتخاذ موقف قوي ضد إسبانيا. اقترح البعض فرض عقوبات اقتصادية على إسبانيا، بينما دعا آخرون إلى إرسال قوة بحرية إلى كوبا لإظهار القوة الأمريكية. ومع ذلك، كان هناك أيضًا بعض الأصوات التي دعت إلى التهدئة والحوار، وحذرت من التداعيات المحتملة للحرب.
موقف الحكومة الأمريكية
كانت إدارة الرئيس فرانكلين بيرس (Franklin Pierce) في موقف صعب. من ناحية، كانت هناك ضغوط شعبية وسياسية كبيرة لاتخاذ إجراءات صارمة ضد إسبانيا. ومن ناحية أخرى، كانت الإدارة حريصة على تجنب الحرب، خاصة في ظل التوترات الداخلية المتزايدة بشأن قضية العبودية.
قررت إدارة بيرس إرسال مبعوث خاص إلى إسبانيا للتفاوض بشأن تسوية للحادثة. تم اختيار بيير سول (Pierre Soulé)، وهو سياسي من ولاية لويزيانا، ليكون المبعوث الخاص. كان سول معروفًا بآرائه المؤيدة للتوسع الإقليمي، وكان يعتقد أن الولايات المتحدة يجب أن تستحوذ على كوبا.
أُعطيت سول تعليمات بالتفاوض مع الحكومة الإسبانية للحصول على تعويضات عن مصادرة السفينة “بلاك واريور”. ومع ذلك، كان سول يحمل أيضًا تعليمات سرية للتفاوض بشأن شراء كوبا من إسبانيا. إذا فشلت المفاوضات، كان سول مخولًا بالتفكير في وسائل أخرى للاستيلاء على كوبا، بما في ذلك استخدام القوة.
وثيقة أوستند
في أكتوبر 1854، التقى سول مع وزير الولايات المتحدة في إسبانيا، جيمس بيوكانان (James Buchanan)، ووزير الولايات المتحدة في بريطانيا العظمى، جون ميسون (John Y. Mason)، في مدينة أوستند في بلجيكا. خلال هذا الاجتماع، قاموا بصياغة وثيقة عُرفت باسم “وثيقة أوستند” (Ostend Manifesto).
نصت وثيقة أوستند على أنه إذا رفضت إسبانيا بيع كوبا للولايات المتحدة، فإن الولايات المتحدة ستكون مُبررة في الاستيلاء على كوبا بالقوة. أثارت هذه الوثيقة جدلاً واسعًا في الولايات المتحدة، حيث اعتبرها البعض دليلًا على أن الإدارة الأمريكية كانت تخطط لغزو كوبا.
أدانت العديد من الصحف والسياسيين وثيقة أوستند، واعتبروها انتهاكًا للقانون الدولي والأخلاق. كما أثارت الوثيقة مخاوف بشأن توسع العبودية، حيث كان العديد من الأمريكيين يعتقدون أن الاستيلاء على كوبا سيؤدي إلى توسع العبودية في الجزيرة.
تسوية الحادثة
في النهاية، تمكنت الولايات المتحدة وإسبانيا من التوصل إلى تسوية بشأن حادثة بلاك واريور. وافقت إسبانيا على دفع تعويضات للشركة المالكة للسفينة، واعتذرت عن مصادرة السفينة. في المقابل، تراجعت الولايات المتحدة عن مطالبها بشراء كوبا.
على الرغم من أن حادثة بلاك واريور لم تؤد إلى حرب بين الولايات المتحدة وإسبانيا، إلا أنها أدت إلى تفاقم التوترات بين البلدين. كما أظهرت الحادثة مدى قوة الرغبة الأمريكية في التوسع الإقليمي، وكشفت عن الانقسامات الداخلية في الولايات المتحدة بشأن قضية العبودية.
تداعيات الحادثة
كانت حادثة بلاك واريور بمثابة تحذير لإسبانيا بشأن تصميم الولايات المتحدة على توسيع نفوذها في منطقة البحر الكاريبي. أدركت إسبانيا أن الولايات المتحدة كانت مستعدة لاستخدام القوة لتحقيق أهدافها، وأن كوبا كانت في خطر متزايد.
كما أدت الحادثة إلى زيادة الاهتمام الأمريكي بكوبا، وإلى زيادة الدعم للاستيلاء على الجزيرة. في السنوات التي تلت حادثة بلاك واريور، بذلت الولايات المتحدة عدة محاولات أخرى لشراء كوبا من إسبانيا، ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل.
في عام 1898، اندلعت الحرب الإسبانية الأمريكية، والتي أدت إلى استقلال كوبا واحتلال الولايات المتحدة لبورتوريكو وغوام والفلبين. كانت حادثة بلاك واريور بمثابة مقدمة لهذه الحرب، وساعدت في تهيئة الظروف التي أدت إلى اندلاعها.
خاتمة
تُعد حادثة بلاك واريور مثالًا على كيف يمكن لحادث بسيط أن يتسبب في أزمة دولية. كادت هذه الحادثة أن تؤدي إلى حرب بين الولايات المتحدة وإسبانيا، وكشفت عن التوترات التجارية والسياسية المتزايدة بين البلدين. على الرغم من أن الحادثة انتهت بتسوية سلمية، إلا أنها تركت أثرًا دائمًا على العلاقات بين الولايات المتحدة وإسبانيا، وساهمت في اندلاع الحرب الإسبانية الأمريكية في نهاية المطاف.