<![CDATA[
مقدمة
النظرية النقدية الحديثة (Modern Monetary Theory أو MMT) هي نظرية اقتصادية كلية غير تقليدية تصف العملة بأنها احتكار عام. وبعبارة أخرى، تفترض النظرية أن الحكومة التي تصدر عملتها الخاصة لا تواجه قيودًا مالية بنفس الطريقة التي تواجهها الأسر أو الشركات. يمكن للحكومة دائمًا إنشاء المزيد من العملة لسداد ديونها أو تمويل الإنفاق، دون الحاجة إلى الاعتماد على الضرائب أو الاقتراض. هذا لا يعني أن الحكومة يمكنها الإنفاق بلا حدود؛ بل إن الإنفاق المفرط يمكن أن يؤدي إلى التضخم.
المبادئ الأساسية للنظرية النقدية الحديثة
تقوم النظرية النقدية الحديثة على عدة مبادئ أساسية، من بينها:
- العملة كاحتكار عام: تعتبر MMT أن العملة هي احتكار عام صادر عن الحكومة. وهذا يعني أن الحكومة هي المزود الحصري للعملة، وبالتالي يمكنها التحكم في عرض النقود.
- الضرائب تدفع الإنفاق: على عكس الاعتقاد السائد بأن الضرائب تمول الإنفاق الحكومي، ترى MMT أن الضرائب تخلق طلبًا على العملة الحكومية. بمعنى آخر، يدفع الناس الضرائب لأنهم بحاجة إلى العملة الحكومية لدفع التزاماتهم الضريبية.
- الدين العام ليس عبئًا: تعتبر MMT أن الدين العام ليس عبئًا على الأجيال القادمة طالما أن الدين مقوم بالعملة المحلية. يمكن للحكومة دائمًا إنشاء المزيد من العملة لسداد ديونها، على الرغم من أن ذلك قد يؤدي إلى التضخم إذا تم بشكل مفرط.
- التضخم هو القيد الحقيقي: وفقًا لـ MMT، فإن القيد الحقيقي على الإنفاق الحكومي ليس المال، بل الموارد الحقيقية المتاحة في الاقتصاد. إذا أنفقت الحكومة أكثر مما يمكن للاقتصاد إنتاجه، فسوف يؤدي ذلك إلى التضخم.
- التوظيف الكامل ممكن: تدعو MMT إلى استخدام الإنفاق الحكومي لتحقيق التوظيف الكامل. تقترح النظرية أن الحكومة يمكنها أن تكون “صاحب العمل الأخير” من خلال تقديم وظائف بحد أدنى للأجور لأي شخص يرغب في العمل.
السياسات المقترحة في النظرية النقدية الحديثة
بناءً على مبادئها الأساسية، تقترح النظرية النقدية الحديثة مجموعة من السياسات الاقتصادية، بما في ذلك:
- برامج التوظيف المضمون: تقترح MMT أن تقوم الحكومة بإنشاء برنامج توظيف مضمون يوفر وظائف بحد أدنى للأجور لأي شخص يرغب في العمل. هذا البرنامج سيعمل كمثبت اقتصادي تلقائي، حيث سيتوسع خلال فترات الركود وينكمش خلال فترات الازدهار.
- الإنفاق الحكومي الاستراتيجي: تدعو MMT إلى استخدام الإنفاق الحكومي لمعالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية الهامة، مثل تغير المناخ والبنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية.
- الاستقلال النقدي: تؤكد MMT على أهمية الاستقلال النقدي للحكومات. يجب أن تكون الحكومات قادرة على إصدار عملتها الخاصة والتحكم في سياستها النقدية لتحقيق أهدافها الاقتصادية.
انتقادات النظرية النقدية الحديثة
على الرغم من شعبيتها المتزايدة، تعرضت النظرية النقدية الحديثة لانتقادات واسعة النطاق من قبل الاقتصاديين التقليديين. تتضمن بعض الانتقادات الرئيسية ما يلي:
- خطر التضخم المفرط: يجادل النقاد بأن MMT تقلل من خطر التضخم. إذا أنفقت الحكومة الكثير من المال دون قيود، فقد يؤدي ذلك إلى تضخم مفرط وتدمير قيمة العملة.
- فقدان الاستقلالية النقدية: يخشى النقاد من أن MMT قد تؤدي إلى فقدان الاستقلالية النقدية للبنوك المركزية. إذا كانت الحكومة تتحكم بشكل كامل في عرض النقود، فقد يكون لدى البنوك المركزية سيطرة أقل على التضخم وأسعار الفائدة.
- تشويه الأسواق: يجادل النقاد بأن تدخل الحكومة في الاقتصاد، كما هو مقترح في MMT، قد يؤدي إلى تشويه الأسواق وتخصيص الموارد بشكل غير فعال.
- الجدوى السياسية: يشكك النقاد في الجدوى السياسية لتنفيذ سياسات MMT. قد يكون من الصعب على الحكومات مقاومة إغراء الإنفاق المفرط، حتى لو كان ذلك يؤدي إلى التضخم.
مؤيدو النظرية النقدية الحديثة
على الرغم من الانتقادات، تحظى النظرية النقدية الحديثة بدعم متزايد من بعض الاقتصاديين وصناع السياسات. يجادل مؤيدو MMT بأنها تقدم إطارًا أكثر واقعية لفهم عمل الاقتصادات الحديثة. كما يزعمون أن سياسات MMT يمكن أن تساعد في حل بعض المشاكل الاقتصادية الأكثر إلحاحًا في عصرنا، مثل البطالة وعدم المساواة وتغير المناخ.
من بين أبرز مؤيدي النظرية النقدية الحديثة:
- ستيفاني كيلتون: أستاذة الاقتصاد والسياسة العامة في جامعة ستوني بروك ومستشارة اقتصادية لحملة بيرني ساندرز الرئاسية.
- رانال باسو: اقتصادي ومؤلف.
- بيل ميتشل: أستاذ الاقتصاد في جامعة نيوكاسل، أستراليا.
تطبيق النظرية النقدية الحديثة في العالم الحقيقي
لم يتم اعتماد النظرية النقدية الحديثة بالكامل من قبل أي دولة حتى الآن، لكن بعض البلدان طبقت سياسات تتوافق مع مبادئها. على سبيل المثال، خلال جائحة كوفيد-19، قامت العديد من الحكومات بزيادة الإنفاق الحكومي بشكل كبير لمواجهة التداعيات الاقتصادية للجائحة. وقد تم تمويل هذا الإنفاق جزئيًا من خلال إنشاء المزيد من العملة، وهو ما يتفق مع مبادئ MMT.
كما أن بعض السياسات المقترحة في MMT، مثل برامج التوظيف المضمون، يتم تجربتها على نطاق صغير في بعض البلدان. على سبيل المثال، قامت مدينة دلفس الهولندية بتجربة برنامج للتوظيف المضمون يوفر وظائف بحد أدنى للأجور للمقيمين العاطلين عن العمل.
النظرية النقدية الحديثة مقابل الاقتصاد الكينزي
غالبًا ما تتم مقارنة النظرية النقدية الحديثة بالاقتصاد الكينزي، حيث أن كليهما يدعو إلى تدخل حكومي أكبر في الاقتصاد. ومع ذلك، هناك بعض الاختلافات الرئيسية بين النظريتين:
- دور السياسة النقدية: يركز الاقتصاد الكينزي بشكل أكبر على السياسة المالية (الإنفاق الحكومي والضرائب) لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، بينما تركز MMT على السياسة النقدية (عرض النقود وأسعار الفائدة).
- القيود على الإنفاق الحكومي: يعتقد الاقتصاديون الكينزيون أن الإنفاق الحكومي يجب أن يكون مقيدًا بمستوى الدين العام، بينما ترى MMT أن الدين العام ليس قيدًا طالما أن الدين مقوم بالعملة المحلية.
- هدف التوظيف الكامل: يتفق كل من الاقتصاد الكينزي وMMT على أهمية التوظيف الكامل، لكن MMT تقترح برنامج توظيف مضمون لتحقيق هذا الهدف، بينما يفضل الاقتصاديون الكينزيون استخدام السياسة المالية لخفض البطالة.
مستقبل النظرية النقدية الحديثة
لا تزال النظرية النقدية الحديثة موضوع نقاش وجدل كبيرين. من غير الواضح ما إذا كانت سياسات MMT سيتم اعتمادها على نطاق واسع في المستقبل. ومع ذلك، فقد أثارت MMT نقاشًا مهمًا حول دور الحكومة في الاقتصاد وكيفية إدارة السياسة النقدية. بغض النظر عما إذا كانت MMT ستصبح التيار السائد في المستقبل، فقد ساهمت بالفعل في توسيع فهمنا للاقتصاد الحديث.
خاتمة
النظرية النقدية الحديثة هي إطار اقتصادي مثير للجدل يقدم وجهة نظر بديلة حول كيفية عمل الاقتصادات الحديثة. تؤكد النظرية على أهمية الاستقلال النقدي والإنفاق الحكومي الاستراتيجي لتحقيق التوظيف الكامل ومعالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية الهامة. على الرغم من أنها تواجه انتقادات واسعة النطاق، إلا أن MMT قد أثارت نقاشًا مهمًا حول دور الحكومة في الاقتصاد وساهمت في توسيع فهمنا للسياسة النقدية.