خلفية تاريخية
نشأت حركة غير المقتنين في سياق التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والدينية التي شهدتها روسيا في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر. بعد سقوط القسطنطينية عام 1453، أصبحت موسكو تُنظر إليها على أنها “روما الثالثة”، وهي مركز جديد للعالم الأرثوذكسي. صاحب هذا التحول في الوعي الديني زيادة في ثروة الكنيسة وسلطتها السياسية. أدى هذا إلى جدل حول دور الكنيسة في المجتمع، وخاصة فيما يتعلق بامتلاك الأراضي.
في ذلك الوقت، كانت الكنيسة الروسية تمتلك أراضٍ واسعة وأعدادًا كبيرة من الأقنان. اعتبر البعض هذه الثروة دليلاً على الفساد والانحراف عن المبادئ المسيحية الأصلية. بدأ هؤلاء ينتقدون سلوك بعض رجال الدين، واتهموهم بالانغماس في الحياة المادية والإفراط في السلطة. هذا الوضع خلق أرضية خصبة لظهور حركة غير المقتنين.
أيديولوجية الحركة
ركز غير المقتنين على عدد من المبادئ الأساسية:
- الفقر الروحي: آمن غير المقتنين بأن الفقر الروحي هو السبيل إلى الخلاص. اعتقدوا أن الكنيسة يجب أن تكون متواضعة وفقيرة، وأن رجال الدين يجب أن يعيشوا حياة بسيطة وتقشفية، وأن يركزوا على خدمة الله والناس بدلاً من جمع الثروة.
- عدم امتلاك الأراضي والممتلكات: عارض غير المقتنين امتلاك الكنيسة للأراضي والممتلكات. رأوا أن هذه الممتلكات تصرف الكنيسة عن مهمتها الروحية وتورطها في السياسة والفساد.
- التوبة والتصوف: شدد غير المقتنين على أهمية التوبة الداخلية والتصوف. آمنوا بأن الخلاص يتحقق من خلال التأمل في الذات والاتصال المباشر بالله.
- رفض السلطة الدنيوية للكنيسة: رفض غير المقتنين السلطة الدنيوية للكنيسة والتدخل في الشؤون السياسية. أرادوا أن تكون الكنيسة مستقلة عن الدولة وأن تركز على رسالتها الروحية.
كانت هذه المبادئ متجذرة في التقاليد الرهبانية الشرقية القديمة. استلهم غير المقتنين من كتابات آباء الكنيسة الأوائل، مثل باسيليوس الكبير ويوحنا الذهبي الفم، اللذين دعوا إلى حياة الفقر والتقشف. كما تأثروا بالتصوف الشرقي، الذي يؤكد على أهمية التجربة الروحية الداخلية.
شخصيات رئيسية
كانت الحركة بقيادة عدد من الشخصيات البارزة، أبرزهم:
- نيلا سورسكي: يعتبر مؤسس حركة غير المقتنين. كان راهبًا روسيًا قضى سنوات في جبل آثوس وتعلم التصوف. أسس ديرًا في شمال روسيا حيث مارس أتباعه مبادئ الفقر والتقشف.
- فاسيان باتريكيف: كان أميرًا روسيًا تحول إلى الرهبنة وانضم إلى حركة غير المقتنين. لعب دورًا مهمًا في نشر أفكار الحركة والدفاع عنها.
- ماكسيموس اليوناني: عالم إنساني يوناني تم استدعاؤه إلى روسيا لترجمة النصوص الدينية. على الرغم من أنه لم يكن غير مقتنًا بالمعنى الكامل، فقد أيد العديد من أفكارهم.
الصراع مع جوزيفيين
واجه غير المقتنين معارضة شديدة من مجموعة أخرى داخل الكنيسة، عرفت باسم “الجوزيفيين”. دافع الجوزيفيون عن حقوق الكنيسة في امتلاك الأراضي والممتلكات، ورأوا فيها ضرورة لدعم أنشطة الكنيسة وخدمة المجتمع. كانوا يؤيدون بقوة السلطة المركزية للكنيسة والدولة.
تطور صراع مرير بين غير المقتنين والجوزيفيين، والذي اتخذ أبعادًا دينية وسياسية. اتهم الجوزيفيون غير المقتنين بالهرطقة والتهور، واتهمهم غير المقتنين بالفساد والانحراف عن الإيمان. استمر هذا الصراع لسنوات، وتسبب في انقسامات داخل الكنيسة الروسية.
في عهد القيصر إيفان الرابع (إيفان الرهيب)، تم قمع حركة غير المقتنين. أدين قادتهم وتعرضوا للاضطهاد، وأيد القيصر موقف الجوزيفيين. أدى ذلك إلى تراجع الحركة وفقدان نفوذها.
تأثير الحركة
على الرغم من قمعها، تركت حركة غير المقتنين تأثيرًا كبيرًا على تاريخ الفكر الديني في روسيا. ساهمت في:
- إثارة النقاش حول العلاقة بين الكنيسة والدولة: أثارت الحركة نقاشًا مهمًا حول حدود سلطة الكنيسة وسلطة الدولة، وكيفية تحقيق التوازن بينهما.
- التأكيد على أهمية الفقر الروحي: ساهمت الحركة في إحياء الاهتمام بالفقر الروحي والتقشف في المجتمع الروسي.
- تأثير على الإصلاحات اللاحقة: أثرت أفكار غير المقتنين على بعض الحركات الإصلاحية اللاحقة في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية.
على الرغم من نهايتها الدرامية، تُذكر حركة غير المقتنين كشهادة على قوة المعتقد الديني والرغبة في الإصلاح والتغيير في مواجهة السلطة والقوة.
خاتمة
مثلت حركة غير المقتنين تحديًا كبيرًا للكنيسة الأرثوذكسية الروسية في القرن السادس عشر. دعت الحركة إلى الفقر الروحي وعدم امتلاك الأراضي، ورفضت تدخل الكنيسة في الشؤون الدنيوية. على الرغم من قمعها، تركت الحركة إرثًا دائمًا، وأثرت في النقاش حول العلاقة بين الكنيسة والدولة، وأكدت على أهمية الفقر الروحي والتقشف. لا يزال فهم أفكار هذه الحركة مهمًا لفهم تاريخ الفكر الديني والسياسي في روسيا.