مقدمة
خطة بكين، أو عملية بكين (بالإنجليزية: Operation Peking)، كانت عملية إخلاء لثلاث مدمرات تابعة للبحرية البولندية – المدمرات “بورزا” (ORP Burza)، و”بليسكافيكا” (ORP Błyskawica)، و”غريف” (ORP Gryf) – إلى المملكة المتحدة في بداية الحرب العالمية الثانية مباشرةً، وذلك قبل الغزو الألماني لبولندا. كان الهدف من العملية هو منع هذه السفن القيمة من الوقوع في أيدي الألمان. تمت العملية بنجاح، ولعبت المدمرات البولندية دورًا هامًا في جهود الحلفاء البحرية خلال الحرب.
الخلفية التاريخية
في أواخر الثلاثينيات، ومع تزايد التوتر في أوروبا وتصاعد التهديد الألماني، أدركت القيادة البولندية أن بولندا ستكون هدفًا محتملاً للغزو. كانت البحرية البولندية صغيرة نسبيًا، وتتألف بشكل أساسي من بضع مدمرات وغواصات وسفن أصغر. كان من الواضح أنه في حالة نشوب حرب مع ألمانيا، فإن البحرية البولندية ستكون في وضع غير مؤات للغاية ضد القوة البحرية الألمانية المتفوقة.
أدركت الحكومة البولندية أنه من أجل الحفاظ على جزء من قوتها البحرية والمساهمة في المجهود الحربي للحلفاء، يجب إجلاء بعض سفنها الأكثر قيمة إلى بريطانيا العظمى. كانت المدمرات الثلاث “بورزا” و”بليسكافيكا” و”غريف” من بين أحدث وأكثر السفن الحربية البولندية تطوراً، وبالتالي تم اختيارهن للمشاركة في خطة الإخلاء.
التخطيط للعملية
بدأ التخطيط لعملية بكين في ربيع عام 1939. كان الهدف الرئيسي هو إخراج المدمرات البولندية الثلاث من بحر البلطيق وتوجيههن إلى موانئ بريطانية آمنة قبل أن يتمكن الألمان من اعتراضهن. كان التخطيط معقدًا بسبب عدة عوامل:
- التهديد الألماني: كانت البحرية الألمانية (الكريغسمارين) قوة بحرية كبيرة ومتطورة، وكانت قادرة على اعتراض المدمرات البولندية بسهولة إذا حاولت الإبحار مباشرة عبر بحر البلطيق.
- الألغام: كان بحر البلطيق مليئًا بالألغام التي زرعتها كل من ألمانيا وبولندا.
- الأحوال الجوية: يمكن أن تكون الأحوال الجوية في بحر البلطيق غير متوقعة وقاسية، مما يجعل الملاحة صعبة وخطيرة.
لتجاوز هذه التحديات، تم وضع خطة مفصلة تضمنت مسارًا سريًا عبر بحر البلطيق، وتجنب المياه الإقليمية الألمانية ومناطق الألغام المعروفة. كان من المقرر أن تبحر المدمرات في الليل وتستخدم التمويه لتجنب اكتشافها.
تم التنسيق الوثيق مع البحرية الملكية البريطانية، التي وافقت على تقديم الدعم والحماية للمدمرات البولندية بمجرد دخولهن المياه البريطانية. تم تحديد نقاط التقاء سرية حيث يمكن للمدمرات البولندية أن تلتقي بسفن البحرية الملكية لتلقي المساعدة.
تنفيذ العملية
في 29 أغسطس 1939، قبل يومين من الغزو الألماني لبولندا، تلقت المدمرات البولندية “بورزا” و”بليسكافيكا” و”غريف” الأمر بتنفيذ خطة بكين. أبحرت السفن من ميناء أوكسيوي في بولندا تحت قيادة العميد رومان ستانكيفيتش. تم إخفاء الوجهة الحقيقية للرحلة عن معظم أفراد الطاقم للحفاظ على السرية.
واجهت المدمرات البولندية العديد من التحديات أثناء رحلتها عبر بحر البلطيق. كان عليها أن تتجنب السفن الألمانية والغواصات والطائرات، وأن تتغلب على الأحوال الجوية السيئة. في إحدى المراحل، اضطرت المدمرات إلى الإبحار عبر حقل ألغام كثيف، وهو ما تم بنجاح بفضل مهارة وخبرة ضباط الملاحة.
في 1 سبتمبر 1939، وهو اليوم الذي غزت فيه ألمانيا بولندا، دخلت المدمرات البولندية المياه البريطانية. تم استقبالهم من قبل سفن البحرية الملكية، التي رافقتهم إلى ميناء ليث في اسكتلندا. اكتملت عملية بكين بنجاح.
نتائج العملية
كانت عملية بكين نجاحًا كبيرًا. تمكنت المدمرات البولندية الثلاث من الوصول إلى بريطانيا العظمى بأمان، لتنضم إلى جهود الحلفاء البحرية. لعبت هذه السفن دورًا حيويًا في معركة الأطلسي، حيث قامت بمرافقة القوافل التجارية وحماية السفن من الغواصات الألمانية. شاركت المدمرات أيضًا في العديد من العمليات البحرية الأخرى خلال الحرب، وحصلت على العديد من الأوسمة والتقديرات.
منع نجاح عملية بكين وقوع هذه السفن القيمة في أيدي الألمان، مما حرمهم من قوة بحرية محتملة. كما أظهرت العملية التزام بولندا بمقاومة العدوان الألماني وتقديم مساهمة في المجهود الحربي للحلفاء.
كانت عملية بكين بمثابة دفعة معنوية كبيرة للبحرية البولندية وللحكومة البولندية في المنفى. أظهرت للعالم أن بولندا لم تستسلم، وأنها ستواصل القتال من أجل حريتها.
دور المدمرات البولندية في الحرب
بعد وصولهن إلى بريطانيا العظمى، خضع المدمرات البولندية لعمليات إصلاح وتحديث، ثم انضممن إلى الأسطول البريطاني. شاركت المدمرات في العديد من العمليات البحرية الهامة طوال فترة الحرب، بما في ذلك:
- مرافقة القوافل: كانت المدمرات البولندية مسؤولة عن مرافقة القوافل التجارية عبر المحيط الأطلسي، وحمايتها من الغواصات الألمانية. كانت هذه مهمة خطيرة وصعبة، حيث كانت القوافل تتعرض باستمرار للهجوم من قبل الغواصات الألمانية.
- العمليات الهجومية: شاركت المدمرات البولندية أيضًا في العمليات الهجومية ضد السفن الألمانية والغواصات. ساهمت المدمرات في إغراق العديد من السفن الألمانية، وساعدت في تقليل التهديد الذي تشكله الغواصات الألمانية على الشحن المتحالف.
- دعم عمليات الإنزال: شاركت المدمرات البولندية في دعم عمليات الإنزال في شمال إفريقيا وصقلية والنورماندي. قدمت المدمرات الدعم النيراني للقوات المتحالفة التي نزلت على الشاطئ، وساعدت في حماية السفن من الهجمات الألمانية.
أظهرت المدمرات البولندية شجاعة ومهارة كبيرة خلال الحرب، وحصلت على العديد من الأوسمة والتقديرات من الحكومات المتحالفة. كانت بمثابة مساهمة قيمة في المجهود الحربي للحلفاء، وساعدت في تحقيق النصر على ألمانيا النازية.
أهمية عملية بكين
تعتبر عملية بكين من العمليات الناجحة التي نفذتها البحرية البولندية في بداية الحرب العالمية الثانية، وتظهر أهميتها في النقاط التالية:
- الحفاظ على القوة البحرية: سمحت العملية بالحفاظ على جزء كبير من القوة البحرية البولندية، والتي كان من الممكن أن تقع في أيدي الألمان.
- المساهمة في المجهود الحربي: ساهمت المدمرات البولندية بشكل كبير في المجهود الحربي للحلفاء، من خلال مرافقة القوافل والاشتراك في العمليات الهجومية.
- رفع الروح المعنوية: كانت العملية بمثابة دفعة معنوية كبيرة للشعب البولندي، وأظهرت أن بولندا لم تستسلم وأنها ستواصل القتال من أجل حريتها.
- التعاون مع الحلفاء: جسدت العملية التعاون الوثيق بين البحرية البولندية والبحرية الملكية البريطانية، والذي استمر طوال فترة الحرب.
خاتمة
كانت خطة بكين عملية بالغة الأهمية شهدت إجلاء ناجحًا لثلاث مدمرات بولندية إلى بريطانيا العظمى في بداية الحرب العالمية الثانية. سمحت هذه العملية بالحفاظ على جزء حيوي من البحرية البولندية وساهمت بشكل كبير في جهود الحلفاء البحرية طوال فترة الحرب. إنها شهادة على التخطيط الاستراتيجي والتعاون الدولي والتصميم الذي لا يتزعزع لمقاومة العدوان.