مقدمة تاريخية
تُعد تارغوفيتسا علامة فارقة في التاريخ البولندي، حيث ترمز إلى الخيانة والفوضى الداخلية التي أدت في النهاية إلى تقويض الدولة البولندية وتقسيمها. يشير المصطلح في المقام الأول إلى اتحاد تارغوفيتسا، وهو تحالف من النبلاء البولنديين الذين سعوا للإطاحة بدستور 3 مايو 1791، والذي اعتبروه تهديدًا لحرياتهم وامتيازاتهم التقليدية. بدلاً من السعي إلى حلول داخلية أو محاولة التفاوض، لجأ هؤلاء النبلاء إلى الإمبراطورة الروسية كاثرين الثانية للحصول على الدعم العسكري، مما فتح الباب أمام التدخل الروسي المباشر في الشؤون البولندية.
إن فهم تارغوفيتسا يتطلب التعمق في السياق السياسي والاجتماعي لبولندا في أواخر القرن الثامن عشر. كانت الكومنولث البولندي الليتواني، وهي دولة كبيرة ذات يوم، تعاني من ضعف شديد بسبب نظام سياسي غير فعال يُعرف باسم “الحرية الذهبية”. أعطى هذا النظام النبلاء سلطات واسعة، بما في ذلك حق النقض (Liberum Veto) الذي يمكن أن يعطل أي قرار في البرلمان (Sejm). أدى الاستخدام المتكرر لحق النقض إلى شلل سياسي وفوضى، مما جعل الكومنولث عرضة للتدخل الأجنبي.
دستور 3 مايو 1791
في محاولة لإنقاذ الدولة، قام الإصلاحيون البولنديون، بقيادة الملك ستانيسلاف أغسطس بوياتوفسكي، بصياغة دستور 3 مايو 1791. كان هذا الدستور وثيقة تقدمية تهدف إلى تحديث الدولة وتعزيزها. وقد أنشأ نظامًا ملكيًا دستوريًا، وألغى حق النقض، وقدم بعض الحقوق المدنية، وحاول تحسين وضع الفلاحين والبرجوازية. اعتبر العديد من النبلاء المحافظين أن الدستور يمثل تهديدًا مباشرًا لامتيازاتهم وسلطتهم. رأوا فيه محاولة لتقويض “الحريات الذهبية” التي تمتعوا بها لعدة قرون.
شعر معارضو الدستور بالخوف من فقدان سلطتهم ونفوذهم التقليديين. كان العديد منهم مرتبطين ارتباطًا وثيقًا بروسيا، التي رأت في بولندا المستقرة والقوية تهديدًا لمصالحها. وهكذا، قرروا تشكيل اتحاد تارغوفيتسا، الذي سمي على اسم المدينة الأوكرانية حيث تم الإعلان عنه رسميًا.
اتحاد تارغوفيتسا: الأهداف والأعضاء
تم الإعلان عن اتحاد تارغوفيتسا في 27 أبريل 1792 في تارغوفيتسا (الآن تورهوفيتسيا، أوكرانيا)، على الرغم من أنه تم التخطيط له وتنظيمه في سانت بطرسبرغ بدعم من الإمبراطورة كاثرين الثانية. كان الهدف المعلن للاتحاد هو استعادة “الحريات الذهبية” التي تم تقويضها، على حد زعمهم، من خلال دستور 3 مايو. في الواقع، كان هدفهم الحقيقي هو الإطاحة بالدستور وإعادة بولندا إلى حالة من الفوضى والضعف، مما يجعلها تابعة لروسيا بشكل كامل.
من بين القادة البارزين لاتحاد تارغوفيتسا::
- ستانيسلاف شتشيسني بوتوتسكي: أحد أغنى وأقوى النبلاء في بولندا.
- فرانسيسك كساوير برانيتسكي: جنرال ومسؤول كبير في الجيش البولندي.
- سيفيرين رزيوفوسكي: كاتب وناقد سياسي.
قام هؤلاء القادة، بدعم من الإمبراطورة كاثرين الثانية، بدعوة روسيا للتدخل عسكريًا في بولندا. وقد برروا ذلك بحجة أنهم كانوا يدافعون عن “الحريات الذهبية” وحقوق النبلاء ضد “الطغيان” الذي فرضه دستور 3 مايو.
الحرب الروسية البولندية عام 1792
استجابت الإمبراطورة كاثرين الثانية لدعوة اتحاد تارغوفيتسا وأرسلت جيشًا روسيًا كبيرًا إلى بولندا في مايو 1792. اندلعت الحرب الروسية البولندية، والتي استمرت عدة أشهر. على الرغم من الشجاعة والتصميم الذي أظهره الجنود البولنديون، بقيادة شخصيات مثل الأمير يوزف بونياتوفسكي وتاديوش كوسيوسكو، إلا أنهم كانوا متخلفين في العدد والتجهيز. لم يكن لديهم فرصة كبيرة ضد الجيش الروسي الأقوى والأفضل تجهيزًا.
في البداية، حقق الجيش البولندي بعض النجاحات، لكنه سرعان ما اضطر إلى التراجع. انضم الملك ستانيسلاف أغسطس بوياتوفسكي، الذي كان مترددًا في البداية، إلى اتحاد تارغوفيتسا في النهاية، معتقدًا أن هذا هو السبيل الوحيد لإنقاذ البلاد من الدمار الكامل. ومع ذلك، فإن قراره لم يفعل شيئًا يذكر لتغيير مسار الحرب.
التقسيم الثاني لبولندا
بعد الانتصار الروسي في الحرب، تم إلغاء دستور 3 مايو، وتم استعادة “الحريات الذهبية”، وأصبحت بولندا تابعة لروسيا بشكل كامل. في عام 1793، قامت روسيا وبروسيا بتقسيم بولندا للمرة الثانية، وضمت كل منهما أجزاء كبيرة من أراضيها. كان هذا التقسيم بمثابة ضربة قاسية لبولندا، وأدى إلى فقدان جزء كبير من أراضيها واستقلالها.
أثار التقسيم الثاني غضبًا واسع النطاق في بولندا. قام الوطنيون البولنديون، بقيادة تاديوش كوسيوسكو، بشن انتفاضة في عام 1794 بهدف استعادة استقلال بولندا. على الرغم من الدعم الشعبي الكبير، إلا أن الانتفاضة تم قمعها بوحشية من قبل الجيوش الروسية والبروسية.
التقسيم الثالث لبولندا
بعد قمع انتفاضة كوسيوسكو، قامت روسيا وبروسيا والنمسا بتقسيم بولندا للمرة الثالثة والأخيرة في عام 1795. تم محو بولندا من الخريطة، ولم تعد موجودة كدولة مستقلة لمدة تزيد عن قرن من الزمان.
تارغوفيتسا كرمز للخيانة
أصبح اسم تارغوفيتسا مرادفًا للخيانة في الذاكرة البولندية. يُنظر إلى قادة الاتحاد على أنهم خونة تخلوا عن مصالح بلادهم لصالح القوى الأجنبية. يتم تذكر أفعالهم على أنها عمل أناني وقصير النظر أدى إلى تقويض الدولة البولندية وتقسيمها.
على مر القرون، كانت تارغوفيتسا موضوعًا للعديد من الأعمال الأدبية والفنية التي تصورها على أنها رمز للخيانة والفوضى. لا تزال هذه القضية تثير جدلاً ونقاشًا في بولندا حتى اليوم، حيث يناقش المؤرخون وعلماء السياسة أسباب ودوافع قادة الاتحاد وعواقب أفعالهم.
تورهوفيتسيا (Torgovitsya)
كما ذكرنا في البداية، تشير تارغوفيتسا أيضًا إلى مدينة تحمل الاسم نفسه، وهي الآن تورهوفيتسيا في أوكرانيا. كانت هذه المدينة الصغيرة موقعًا مهمًا في التاريخ البولندي بسبب الإعلان عن اتحاد تارغوفيتسا فيها. تقع تورهوفيتسيا في منطقة تاريخية كانت جزءًا من الكومنولث البولندي الليتواني لعدة قرون. لا تزال المدينة تحمل آثارًا من ماضيها البولندي، على الرغم من أنها الآن جزء من أوكرانيا.
اليوم، تورهوفيتسيا هي بلدة صغيرة ذات أهمية تاريخية متواضعة. ومع ذلك، لا يزال اسمها يتردد صداه في التاريخ البولندي كرمز للخيانة والفوضى.
دروس مستفادة
تقدم قصة تارغوفيتسا دروسًا قيمة حول أهمية الوحدة الوطنية، وعواقب الفوضى الداخلية، وأخطار التدخل الأجنبي. يجب أن يتذكر البولنديون، وكذلك جميع الأمم، أهمية حماية استقلالهم وسيادتهم، وتجنب الخلافات الداخلية التي يمكن أن تستغلها القوى الأجنبية.
كما تؤكد قصة تارغوفيتسا على أهمية الإصلاح السياسي والاجتماعي في الحفاظ على قوة واستقرار الدولة. كان دستور 3 مايو محاولة جريئة لتحديث بولندا وتعزيزها، لكنه قوبل بمقاومة من أولئك الذين كانوا يخشون فقدان امتيازاتهم وسلطتهم. إن الفشل في تنفيذ الإصلاحات الضرورية يمكن أن يؤدي إلى الفوضى والضعف، مما يجعل الدولة عرضة للتدخل الأجنبي.
خاتمة
تارغوفيتسا هي أكثر من مجرد اسم مكان أو حدث تاريخي. إنها رمز معقد للخيانة والفوضى والضعف السياسي الذي أدى إلى تقسيم بولندا. من خلال فهم تاريخ تارغوفيتسا، يمكننا أن نتعلم دروسًا قيمة حول أهمية الوحدة الوطنية، والإصلاح السياسي، ومقاومة التدخل الأجنبي. يجب أن نتذكر دائمًا عواقب الفوضى الداخلية والخيانة، وأن نسعى جاهدين لبناء دول قوية ومستقرة قادرة على حماية استقلالها وسيادتها.