السترلة (Citrullination)

مقدمة

السترلة، أو ما يُعرف أيضًا بإزالة الإيمين (Deimination)، هي عملية تحويل كيميائي حيوي يتم فيها تحويل الحمض الأميني الأرجينين (Arginine) الموجود في البروتين إلى الحمض الأميني سيترولين (Citrulline). تُعد هذه العملية تعديلًا هامًا بعد الترجمة (Post-translational modification) للبروتينات، أي أنها تحدث بعد عملية تصنيع البروتين من الحمض النووي الريبوزي الرسول (mRNA). تلعب السترلة دورًا محوريًا في العديد من العمليات البيولوجية، بما في ذلك تنظيم التعبير الجيني، واستجابة الجهاز المناعي، وموت الخلايا المبرمج (Apoptosis). كما أنها مرتبطة بعدد من الأمراض، بما في ذلك التهاب المفاصل الروماتويدي (Rheumatoid Arthritis) والتصلب المتعدد (Multiple Sclerosis).

آلية السترلة

تتم السترلة بواسطة مجموعة من الإنزيمات تسمى ببتيديل أرجينين دييميناز (Peptidylarginine Deiminases)، وتُختصر غالبًا بـ PADs. هذه الإنزيمات تحفز إزالة مجموعة الإيمين من الأرجينين، مما يؤدي إلى تكوين السيترولين. لدى الثدييات خمسة أنواع مختلفة من إنزيمات PADs (PAD1، PAD2، PAD3، PAD4، و PAD6)، ولكل منها توزيع أنسجة وظيفية مختلفة. على سبيل المثال، يوجد PAD1 بشكل أساسي في البشرة ويلعب دورًا في تمايز الخلايا الظهارية. يوجد PAD2 و PAD4 على نطاق واسع في العديد من الأنسجة والأعضاء، بما في ذلك الدماغ ونخاع العظام، ويشاركان في تنظيم وظائف المناعة والاستجابة للالتهابات. أما PAD3 فيتواجد بكثرة في بصيلات الشعر ويساهم في تكوين الشعر. في حين أن PAD6 يقتصر وجوده على البويضات والخلايا الجنينية المبكرة، حيث يشارك في نمو الجنين.

الخطوات التفصيلية لعملية السترلة:

1. ارتباط الإنزيم بالبروتين الهدف: يبدأ الإنزيم PAD بالارتباط ببروتين يحتوي على بقايا الأرجينين.
2. تحفيز التفاعل الكيميائي: يقوم الإنزيم PAD بتحفيز تفاعل كيميائي لإزالة مجموعة الإيمين (=NH) من بقايا الأرجينين.
3. تكوين السيترولين: ينتج عن هذا التفاعل تحويل الأرجينين إلى سيترولين، مع الحفاظ على الهيكل العام للبروتين.
4. انفصال الإنزيم: ينفصل الإنزيم PAD عن البروتين المُعدَّل، ويمكنه الآن تعديل بروتينات أخرى.

الأهمية البيولوجية للسترلة

تؤثر السترلة على وظيفة البروتين بعدة طرق. أولاً، تؤدي إزالة مجموعة الإيمين إلى تغيير الشحنة الكهربائية للحمض الأميني، مما قد يؤثر على تفاعلات البروتين مع الجزيئات الأخرى. ثانيًا، يمكن أن تؤثر السترلة على بنية البروتين ثلاثية الأبعاد، مما يؤدي إلى تغيير وظيفته. ثالثًا، يمكن أن تخلق السترلة مواقع ارتباط جديدة للبروتينات الأخرى، مما يؤدي إلى تغيير التفاعلات بين البروتينات.

أمثلة على الأدوار البيولوجية للسترلة:

• تنظيم التعبير الجيني: تلعب السترلة دورًا في تنظيم التعبير الجيني عن طريق تعديل البروتينات المرتبطة بالحمض النووي، مثل الهيستونات (Histones). يمكن أن تؤدي سترلة الهيستونات إلى تغيير بنية الكروماتين (Chromatin)، مما يؤثر على إمكانية وصول عوامل النسخ إلى الحمض النووي.
• الاستجابة المناعية: تشارك السترلة في الاستجابة المناعية عن طريق تعديل البروتينات الموجودة في الخلايا المناعية، مثل العدلات (Neutrophils). يمكن أن تؤدي سترلة البروتينات الموجودة في العدلات إلى تغيير وظيفتها، مما يؤثر على قدرتها على مكافحة العدوى.
• موت الخلايا المبرمج: تلعب السترلة دورًا في موت الخلايا المبرمج عن طريق تعديل البروتينات المشاركة في هذه العملية. يمكن أن تؤدي سترلة هذه البروتينات إلى تنشيط مسارات موت الخلايا المبرمج.

السترلة والأمراض

تم ربط السترلة بعدد من الأمراض، بما في ذلك:

• التهاب المفاصل الروماتويدي (Rheumatoid Arthritis): يتميز التهاب المفاصل الروماتويدي بوجود أجسام مضادة ذاتية تستهدف البروتينات المسترولَة (Citronated proteins). يُعتقد أن هذه الأجسام المضادة الذاتية تلعب دورًا في تطور المرض. يعتبر وجود الأجسام المضادة للببتيدات الحلقية المسترولَة (Anti-citrullinated peptide antibodies or ACPAs) علامة مميزة لالتهاب المفاصل الروماتويدي.
• التصلب المتعدد (Multiple Sclerosis): تم العثور على مستويات عالية من البروتينات المسترولَة في الدماغ والحبل الشوكي للمرضى الذين يعانون من التصلب المتعدد. يُعتقد أن السترلة تساهم في تلف الخلايا العصبية الذي يميز هذا المرض.
• مرض الزهايمر (Alzheimer’s Disease): تشير الأبحاث إلى أن السترلة قد تلعب دورًا في تطور مرض الزهايمر، حيث تم العثور على بروتينات سترولية في لويحات الأميلويد (Amyloid plaques) التي تتراكم في أدمغة مرضى الزهايمر.
• السرطان (Cancer): تشير بعض الدراسات إلى أن السترلة قد تشارك في تطور بعض أنواع السرطان، بما في ذلك سرطان الثدي وسرطان الرئة.

التهاب المفاصل الروماتويدي والسترلة:

التهاب المفاصل الروماتويدي هو مرض مناعي ذاتي مزمن يؤثر بشكل رئيسي على المفاصل. في هذا المرض، يهاجم الجهاز المناعي في الجسم بطانة المفاصل، مما يؤدي إلى التهاب وتلف. تم ربط السترلة ارتباطًا وثيقًا بالتهاب المفاصل الروماتويدي، حيث يتم الكشف عن الأجسام المضادة للبروتينات المسترولَة في معظم المرضى. تُستخدم هذه الأجسام المضادة كعلامة تشخيصية للمرض، كما أنها قد تلعب دورًا في تطوره. يُعتقد أن السترلة تزيد من مناعة البروتينات الذاتية، مما يؤدي إلى استجابة مناعية ذاتية.

تطبيقات السترلة في البحث والتطوير

نظرًا لأهمية السترلة في العمليات البيولوجية والمرضية، فقد تم تطوير العديد من التطبيقات البحثية والتطويرية التي تستغل هذه العملية:

• الكشف عن الأجسام المضادة للبروتينات المسترولَة: تُستخدم هذه الاختبارات لتشخيص التهاب المفاصل الروماتويدي والتنبؤ بمسار المرض.
• تطوير مثبطات إنزيمات PAD: يتم تطوير هذه المثبطات كعلاجات محتملة للأمراض المرتبطة بالسترلة، مثل التهاب المفاصل الروماتويدي والسرطان.
• استخدام البروتينات المسترولَة كعلامات حيوية: يمكن استخدام البروتينات المسترولَة كعلامات حيوية للكشف عن الأمراض وتشخيصها.
• دراسة وظيفة البروتينات المسترولَة: تساعد الأبحاث على فهم وظائف البروتينات المسترولَة في العمليات البيولوجية والمرضية.

التحديات والاتجاهات المستقبلية

على الرغم من التقدم الكبير في فهم السترلة، لا تزال هناك العديد من التحديات التي يجب معالجتها. أحد التحديات الرئيسية هو تحديد البروتينات التي يتم سترلتها في ظل ظروف مختلفة وكيف تؤثر السترلة على وظيفتها. هناك تحد آخر يتمثل في تطوير مثبطات انتقائية لإنزيمات PAD المختلفة، حيث أن العديد من المثبطات الحالية غير انتقائية ويمكن أن يكون لها آثار جانبية. بالإضافة إلى ذلك، هناك حاجة إلى مزيد من البحث لفهم الدور الذي تلعبه السترلة في الأمراض المختلفة وكيف يمكن استهدافها علاجيًا.

تشمل الاتجاهات المستقبلية في أبحاث السترلة ما يلي:

• تطوير تقنيات جديدة للكشف عن البروتينات المسترولَة: ستساعد هذه التقنيات على تحديد البروتينات التي يتم سترلتها في ظل ظروف مختلفة.
• دراسة دور السترلة في الأمراض المختلفة: ستساعد هذه الدراسات على فهم كيفية مساهمة السترلة في تطور الأمراض المختلفة.
• تطوير علاجات جديدة تستهدف السترلة: ستساعد هذه العلاجات على علاج الأمراض المرتبطة بالسترلة.

خاتمة

السترلة هي عملية تعديل مهمة بعد الترجمة تلعب دورًا في العديد من العمليات البيولوجية والأمراض. فهم السترلة وآلياتها التنظيمية يوفر رؤى قيمة حول وظائف الخلايا والاستجابات المناعية، ويفتح آفاقًا جديدة لتطوير استراتيجيات علاجية للأمراض المرتبطة بالسترلة. الأبحاث المستمرة في هذا المجال تعد بالكشف عن المزيد من التفاصيل حول هذه العملية المعقدة وتأثيرها على صحة الإنسان.

المراجع

• Vossenaar ER, van der Woude D, van Venrooij WJ, Pruijn GJ. PADs: a growing family of proteins that deiminate proteins. Trends Biochem Sci. 2003 Nov;28(11):617-24.
• György B, Tóth E, Tőkési N, Falus A. Citrullination: a posttranslational modification in health and disease. Int J Biochem Cell Biol. 2006;38(10):1662-77.
• van Delft MAM, Huizinga TWJ, Toes REM. Citrullination and the development of rheumatoid arthritis. Curr Opin Rheumatol. 2011 May;23(3):241-7.