<![CDATA[
مقدمة
الانحراف الغريزي، أو ما يُعرف أيضًا بالارتداد الغريزي، هو مفهوم في علم النفس السلوكي يشير إلى ميل الحيوان المدرب على القيام بسلوك معين إلى العودة إلى سلوكيات غريزية فطرية تتعارض مع السلوك المدرب عليه. بمعنى آخر، حتى بعد تدريب الحيوان بنجاح على أداء سلوك مصطنع، قد يعود الحيوان بشكل لا إرادي إلى أنماط سلوكية متأصلة في طبيعته البيولوجية.
أصول مفهوم الانحراف الغريزي
تم تقديم مفهوم الانحراف الغريزي لأول مرة من قبل عالمي النفس كيلر وماريان بريلاند في الستينيات. كان الزوجان من طلاب بي إف سكينر، الرائد في مجال علم النفس السلوكي، وكانا يعملان على تطبيق مبادئ الاشتراط الإجرائي في تدريب الحيوانات لأغراض تجارية، مثل العروض الترفيهية والإعلانات. اكتشف الزوجان أنه على الرغم من نجاحهما في تدريب الحيوانات على أداء سلوكيات معينة باستخدام تقنيات التعزيز، إلا أن الحيوانات في كثير من الأحيان كانت تُظهر سلوكيات غريزية تتعارض مع السلوك المدرب عليه، مما يعيق الأداء المطلوب.
تجربة بريلاند وزوجته
أجرى بريلاند وزوجته سلسلة من التجارب على مجموعة متنوعة من الحيوانات، بما في ذلك الخنازير والدجاج والراكون. في إحدى التجارب الشهيرة، حاولوا تدريب الراكون على إيداع عملة معدنية في حصالة نقود. في البداية، تعلم الراكون بسرعة ربط العملة المعدنية بالحصول على مكافأة غذائية. ومع ذلك، بمرور الوقت، بدأ الراكون في إظهار سلوكيات غريزية تتمثل في فرك العملات المعدنية معًا وغمسها في الحصالة وسحبها للخارج، بدلاً من مجرد إيداعها. هذا السلوك، الذي كان جزءًا من سلوك الراكون الطبيعي في البحث عن الطعام وغسله، تدخل في السلوك المدرب عليه، مما جعل من الصعب على الراكون إكمال المهمة بنجاح.
تفسير الانحراف الغريزي
يقدم الانحراف الغريزي تحديًا لمفهوم “الاشتراط الإجرائي” الذي يعتبر حجر الزاوية في علم النفس السلوكي. يشير الاشتراط الإجرائي إلى أن السلوك يمكن تشكيله وتعزيزه من خلال العواقب التي تتبعه. ومع ذلك، يُظهر الانحراف الغريزي أن السلوكيات الغريزية يمكن أن تتغلب على السلوكيات المتعلمة، حتى عندما تكون الأخيرة مرتبطة بمكافآت. هناك عدة تفسيرات محتملة للانحراف الغريزي:
- التأثير البيولوجي: تلعب العوامل البيولوجية والوراثية دورًا مهمًا في تحديد سلوك الحيوان. بعض السلوكيات متأصلة بعمق في التركيب الجيني للحيوان، مما يجعل من الصعب قمعها أو استبدالها بسلوكيات متعلمة.
- التأهب: قد تكون الحيوانات “مهيأة” لتعلم بعض أنواع الارتباطات بسهولة أكبر من غيرها. على سبيل المثال، قد يكون من الأسهل تدريب حيوان على أداء سلوك يتوافق مع ميوله الطبيعية بدلاً من سلوك يتعارض معها.
- التنافس بين الدوافع: قد يكون هناك تنافس بين الدافع للحصول على مكافأة والدافع لإظهار سلوك غريزي. في بعض الحالات، قد يكون الدافع الغريزي أقوى من الدافع للحصول على المكافأة، مما يؤدي إلى الانحراف الغريزي.
أمثلة أخرى على الانحراف الغريزي
توجد أمثلة عديدة على الانحراف الغريزي في مختلف أنواع الحيوانات. تشمل بعض الأمثلة الشائعة ما يلي:
- الخنازير: غالبًا ما تحاول الخنازير “تتجذر” أو تحفر في الأرض حتى بعد تدريبها على أداء سلوكيات أخرى.
- الدجاج: قد يبدأ الدجاج في النقر على الأرض بحثًا عن الطعام حتى بعد تدريبه على تناول الطعام من وعاء.
- الكلاب: قد تحاول الكلاب دفن العظام أو الأشياء الأخرى حتى بعد تدريبها على إحضارها.
توضح هذه الأمثلة أن الانحراف الغريزي ليس مجرد ظاهرة تحدث في المختبر، بل هو سلوك شائع يمكن ملاحظته في مجموعة متنوعة من الحيوانات في البيئات المختلفة.
تطبيقات الانحراف الغريزي
على الرغم من أن الانحراف الغريزي قد يبدو وكأنه مشكلة بالنسبة لمدربي الحيوانات، إلا أنه يمكن أن يكون له أيضًا بعض التطبيقات المفيدة. على سبيل المثال، يمكن أن يساعد فهم الانحراف الغريزي المدربين على تصميم برامج تدريب أكثر فعالية تأخذ في الاعتبار الميول الطبيعية للحيوان. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يساعد الانحراف الغريزي في فهم تطور السلوك وكيف تتفاعل العوامل البيولوجية والبيئية لتشكيل سلوك الحيوان.
في مجال علم النفس البشري، يمكن أن يساعدنا فهم الانحراف الغريزي في فهم سبب صعوبة تغيير بعض العادات أو السلوكيات المتأصلة. على سبيل المثال، قد يكون من الصعب على الشخص الإقلاع عن التدخين أو اتباع نظام غذائي صحي بسبب العوامل البيولوجية والاجتماعية التي تساهم في هذه السلوكيات.
الانتقادات الموجهة لمفهوم الانحراف الغريزي
على الرغم من أن مفهوم الانحراف الغريزي قد حظي بقبول واسع النطاق في علم النفس السلوكي، إلا أنه واجه أيضًا بعض الانتقادات. يجادل بعض النقاد بأن الانحراف الغريزي ليس سوى مثال على التعلم المتداخل، حيث تتداخل السلوكيات المتعلمة مع بعضها البعض. يجادلون أيضًا بأن بريلاند وزوجته ربما لم يكونا قد طبقا تقنيات التدريب بشكل صحيح، مما أدى إلى ظهور السلوكيات الغريزية.
ومع ذلك، يرى معظم الباحثين أن الانحراف الغريزي هو ظاهرة حقيقية ومتميزة تختلف عن التعلم المتداخل. يشيرون إلى أن السلوكيات الغريزية غالبًا ما تكون قوية ومستمرة، حتى بعد محاولات مكثفة لقمعها. بالإضافة إلى ذلك، فقد تم ملاحظة الانحراف الغريزي في مجموعة متنوعة من الحيوانات وفي ظل ظروف تجريبية مختلفة، مما يشير إلى أنه ليس مجرد نتيجة لأخطاء التدريب.
أهمية الانحراف الغريزي
تكمن أهمية الانحراف الغريزي في أنه يسلط الضوء على حدود الاشتراط الإجرائي وأهمية فهم العوامل البيولوجية والوراثية التي تؤثر في السلوك. إنه يذكرنا بأن الحيوانات ليست مجرد لوحات بيضاء يمكن تشكيلها بسهولة من خلال التعزيز والعقاب. بدلاً من ذلك، تمتلك الحيوانات ميولًا فطرية قوية يمكن أن تؤثر في سلوكها بطرق غير متوقعة. من خلال فهم هذه الميول الفطرية، يمكننا تطوير برامج تدريب أكثر فعالية وفهمًا أعمق للسلوك البشري والحيواني.
خاتمة
الانحراف الغريزي هو ظاهرة سلوكية معقدة تظهر أن السلوكيات الغريزية يمكن أن تتغلب على السلوكيات المتعلمة، حتى عندما تكون الأخيرة مرتبطة بمكافآت. إنه يمثل تحديًا لمفهوم الاشتراط الإجرائي ويؤكد على أهمية فهم العوامل البيولوجية والوراثية التي تؤثر في السلوك. على الرغم من أنه قد يبدو وكأنه مشكلة بالنسبة لمدربي الحيوانات، إلا أن الانحراف الغريزي يمكن أن يكون له أيضًا بعض التطبيقات المفيدة في مجالات مثل علم النفس البشري وفهم تطور السلوك.