أصل الكلمة ومعناها
كلمة “باليا” مشتقة من اللغة السنسكريتية، وتحمل في طياتها معاني عميقة تتعلق بالقياس والتقييم. في سياق الزمن، تشير “باليا” إلى وحدة زمنية كبيرة جدًا، تستخدم لتقدير الفترات الزمنية الهائلة التي تفوق التصور البشري المعتاد. تحديدًا، تمثل الباليا فترة زمنية تساوي 100,000,000,000,000 (مائة تريليون) سنة. هذا الرقم الفلكي يعكس التصور الجايني للزمن كعملية دورية لا متناهية، حيث تتكرر الأحداث والظواهر على نطاقات زمنية واسعة للغاية.
أهمية الباليا في الديانة الجاينية
تكمن أهمية الباليا في الديانة الجاينية في دورها المحوري في فهم الدورات الزمنية الكونية، وتحديد مواقع الأحداث الهامة في هذه الدورات. على سبيل المثال، يتم استخدام الباليا لتحديد الفترة الزمنية التي ظهر فيها اللورد أديناث (“اللورد الأول”) في الهند. اللورد أديناث هو أول تيرثانكارا (Tirthankara) في الديانة الجاينية، ويعتبر المؤسس الروحي لهذه الديانة. وفقًا للمعتقدات الجاينية، فإن ظهور التيرثانكارا يمثل بداية دورة زمنية جديدة، ويؤدي إلى ازدهار القيم الروحية والأخلاقية في العالم.
وبالإضافة إلى ذلك، تستخدم الباليا في تقدير فترات حياة الكائنات المختلفة، وتحديد المدة التي تقضيها الروح في عوالم مختلفة بعد الموت. هذه الحسابات الزمنية المعقدة تساعد المؤمنين على فهم طبيعة الوجود، وتشجعهم على السعي نحو التحرر من دورة الولادة والموت.
مفهوم الزمن في الجاينية
يعتبر مفهوم الزمن في الجاينية فريدًا من نوعه، حيث يختلف بشكل كبير عن التصورات الخطية الشائعة في الثقافات الأخرى. فالزمن في الجاينية ليس مجرد خط مستقيم يمتد من الماضي إلى المستقبل، بل هو دورة لا نهائية تتكرر باستمرار. تتكون هذه الدورة من فترتين رئيسيتين: أوتساربانى (Utsarpini) وأفاساربانى (Avasarpini).
- أوتساربانى (Utsarpini): هي الفترة الصاعدة أو فترة التقدم، حيث تتحسن الظروف الأخلاقية والروحية تدريجيًا. يزداد متوسط عمر الإنسان، وتتحسن الصحة والرفاهية العامة.
- أفاساربانى (Avasarpini): هي الفترة الهابطة أو فترة الانحطاط، حيث تتدهور الظروف الأخلاقية والروحية تدريجيًا. ينخفض متوسط عمر الإنسان، وتنتشر الأمراض والمعاناة.
تتكون كل من فترتي أوتساربانى وأفاساربانى من ستة عصور فرعية، تعرف باسم آرا (Ara). تتميز كل آرا بخصائص فريدة، وتختلف عن غيرها في مستوى التقدم أو الانحطاط الأخلاقي والروحي. تتكرر هذه الدورة الزمنية إلى الأبد، مما يعني أن العالم يمر باستمرار بفترات من التقدم والانحطاط.
علاقة الباليا بالوحدات الزمنية الأخرى
تعتبر الباليا جزءًا من نظام معقد من الوحدات الزمنية المستخدمة في الجاينية. توجد وحدات زمنية أصغر وأكبر من الباليا، وتستخدم هذه الوحدات لقياس فترات زمنية مختلفة. بعض الوحدات الزمنية الهامة في الجاينية تشمل:
- سامايا (Samaya): هي أصغر وحدة زمنية في الجاينية، وتعتبر لحظة لا تقبل القسمة.
- أوالي (Avalika): تتكون من عدد كبير من السامايا.
- موهورتا (Muhurta): تتكون من عدد كبير من الأوالي، وتستخدم في تحديد الأوقات المناسبة للقيام بأنشطة مختلفة.
- بورفا (Purva): هي وحدة زمنية كبيرة جدًا، وتتكون من عدد كبير من الباليا.
- ساجاروباما (Sagaropama): هي وحدة زمنية هائلة، وتستخدم في قياس فترات زمنية كونية.
العلاقة بين هذه الوحدات الزمنية معقدة، وتتطلب فهمًا عميقًا للرياضيات والفلك الجايني. ومع ذلك، فإن فهم هذه الوحدات يساعد المؤمنين على فهم نطاق الزمن في الجاينية، وتقدير حجم الأحداث الكونية التي تحدث على نطاقات زمنية واسعة للغاية.
كيفية حساب الباليا
حساب الباليا يتضمن مفاهيم رياضية معقدة، ويتطلب فهمًا عميقًا للنظام العددي الجايني. في الأساس، يتم حساب الباليا عن طريق ضرب عدد كبير جدًا من الوحدات الزمنية الصغيرة (مثل السامايا والأوالي) معًا. هذا الحساب ليس بالأمر السهل، ويتطلب معرفة متخصصة بالرياضيات الجاينية.
بالإضافة إلى ذلك، توجد أنواع مختلفة من الباليا، ولكل نوع طريقة حساب مختلفة. على سبيل المثال، توجد باليا تسمى “أدها باليا” (Addha Palya)، وهي تمثل نصف باليا كاملة. توجد أيضًا باليا تسمى “ساجاروباما باليا” (Sagaropama Palya)، وهي تستخدم في قياس فترات زمنية أكبر بكثير من الباليا العادية.
نظرًا لتعقيد هذه الحسابات، فإن معظم الناس يعتمدون على العلماء والباحثين المتخصصين في الديانة الجاينية للحصول على معلومات دقيقة حول الباليا وغيرها من الوحدات الزمنية.
الباليا في النصوص الجاينية
تذكر الباليا في العديد من النصوص الجاينية القديمة، وتستخدم في وصف الأحداث الكونية والدورات الزمنية. على سبيل المثال، تذكر الباليا في الأغاما (Agama)، وهي مجموعة النصوص المقدسة في الديانة الجاينية. تستخدم الأغاما الباليا لتحديد الفترات الزمنية التي ظهر فيها التيرثانكارا، ووصف التغيرات التي تحدث في العالم على مر العصور.
بالإضافة إلى ذلك، تذكر الباليا في البورانا (Purana)، وهي مجموعة النصوص التي تتناول التاريخ الكوني والأساطير الجاينية. تستخدم البورانا الباليا لتحديد فترات حياة الكائنات المختلفة، ووصف مصير الأرواح بعد الموت.
تعتبر هذه النصوص مصادر هامة لفهم مفهوم الباليا وأهميته في الديانة الجاينية. من خلال دراسة هذه النصوص، يمكن للمؤمنين الحصول على فهم أعمق لطبيعة الزمن والكون، والسعي نحو التحرر من دورة الولادة والموت.
تأثير الباليا على الممارسات الجاينية
إن فهم مفهوم الباليا له تأثير عميق على الممارسات الجاينية. فعندما يدرك المؤمنون حجم الزمن وأهمية الدورات الكونية، فإنهم يصبحون أكثر وعيًا بمسؤوليتهم في هذا العالم. يشجعهم هذا الوعي على اتباع مبادئ اللاعنف (أهيمسا) والحقيقة (ساتيا) وعدم السرقة (أستييا) والعفة (براماشاريا) وعدم التملك (أباريجراها). هذه المبادئ تساعدهم على تقليل الكارما السلبية، والسعي نحو التحرر من دورة الولادة والموت.
بالإضافة إلى ذلك، يشجع فهم الباليا المؤمنين على ممارسة التأمل واليوغا، وتكريس حياتهم للخدمة الاجتماعية. من خلال هذه الممارسات، يمكنهم تطوير وعيهم الروحي، والمساهمة في خلق عالم أفضل للجميع.
انتقادات لمفهوم الباليا
على الرغم من أهمية مفهوم الباليا في الديانة الجاينية، إلا أنه تعرض لبعض الانتقادات من قبل العلماء والباحثين. يرى بعض النقاد أن استخدام أرقام كبيرة جدًا لقياس الزمن هو أمر غير واقعي، ولا يعكس بدقة طبيعة الزمن. يجادلون بأن هذه الأرقام هي مجرد رموز تستخدم للتعبير عن مفاهيم مجردة، ولا ينبغي أخذها على محمل الجد.
ومع ذلك، يرى المؤمنون الجاينيون أن هذه الأرقام لها قيمة رمزية، وتعكس التصور الجايني للزمن كعملية دورية لا متناهية. يعتقدون أن فهم هذه الأرقام يساعدهم على فهم طبيعة الوجود، والسعي نحو التحرر من دورة الولادة والموت.
خاتمة
في الختام، تُعتبر “باليا” وحدة زمنية هائلة الأهمية في الديانة الجاينية، تستخدم في قياس فترات زمنية طويلة جدًا، وغالبًا ما ترتبط بأحداث كونية أو دورات زمنية شاسعة. إن فهم مصطلح “باليا” يتطلب التعمق في فلسفة الزمن الجايني، التي تختلف بشكل كبير عن التصورات الزمنية الخطية الشائعة. على الرغم من بعض الانتقادات، تظل الباليا مفهومًا أساسيًا في الديانة الجاينية، وتؤثر بشكل كبير على الممارسات والمعتقدات الدينية.