مقدمة
سعيد بن عامر الجمحي، صحابي جليل من السابقين إلى الإسلام، وشخصية فذة تجسد الزهد والورع والعدل. أسلم في بداية الدعوة، وشهد مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم غزوة خيبر، ثم لزم الرسول الكريم وتتلمذ على يديه. بعد وفاة النبي، كان لسعيد بن عامر دور بارز في خدمة الإسلام والمسلمين، حيث عينه عمر بن الخطاب رضي الله عنه والياً على حمص في بلاد الشام. قصة حياته مليئة بالعبر والدروس، وتعد مثالاً يحتذى به في الإخلاص والتفاني في سبيل الله.
نشأته وإسلامه
ينتمي سعيد بن عامر إلى قبيلة بني جُمَح، وهي من قبائل قريش المعروفة. لم تذكر المصادر التاريخية الكثير عن تفاصيل نشأته قبل الإسلام، إلا أنه كان يتمتع بالفطنة والذكاء. قصته مع الإسلام تبدأ في فترة مبكرة، حيث كان شاهدًا على تعذيب خُبيب بن عدي، الصحابي الذي أُسر في مكة وعُذب حتى الموت. هذا المشهد ترك أثرًا عميقًا في نفس سعيد، وبدأ يفكر في حقيقة هذا الدين الجديد الذي يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم.
بعد تفكير عميق وتأمل في تعاليم الإسلام، شرح الله صدره للإسلام، فأسلم وأعلن إسلامه. لم يمنعه نسبه القرشي أو مكانته الاجتماعية من اتباع الحق. كان إسلامه نقطة تحول في حياته، حيث وهب نفسه لخدمة الإسلام والمسلمين.
صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم
بعد إسلامه، لازم سعيد بن عامر النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلم منه الكثير. شهد معه غزوة خيبر، واكتسب خبرة في الجهاد والدفاع عن الإسلام. كان من المقربين إلى النبي، وحظي بتقديره وثقته. لم يشارك في جميع الغزوات بسبب حداثة إسلامه وربما لظروف أخرى، لكنه كان حاضرًا بقلبه وروحه في كل ما يخدم الإسلام.
كان سعيد بن عامر يتميز بالزهد والورع، وكان يبتعد عن الشبهات. كان مثالًا للمسلم الحق الذي يخشى الله في السر والعلن. هذه الصفات جعلته محبوبًا من النبي صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة الكرام.
ولايته على حمص
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وتولي أبي بكر الصديق رضي الله عنه الخلافة، استمر سعيد بن عامر في خدمة الإسلام. وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقع الاختيار عليه ليكون واليًا على حمص. كان عمر بن الخطاب حريصًا على اختيار الأكفاء لتولي المناصب، وكان يعلم بصدق سعيد بن عامر وأمانته.
عندما ولاه عمر على حمص، قال له: “يا سعيد، إني قد وليتك حمص”. فقال سعيد: “يا عمر، لا تفتني”. فقال عمر: “وما ذاك؟” قال: “إني رجل ضعيف، وأخشى أن لا أقوم بحق الولاية”. فقال عمر: “لا والله، لا أدعك”. ثم قال: “اللهم أعنه ووفقه”.
تولى سعيد بن عامر ولاية حمص، وأظهر فيها من العدل والإنصاف والزهد ما جعله قدوة حسنة. كان يعيش عيشة بسيطة، ويتفقد أحوال الرعية، ويقضي حاجاتهم. لم يكن يسكن القصور، ولم يرتدِ الملابس الفاخرة، بل كان يعيش كواحد من عامة الناس.
من القصص المشهورة عن زهده، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه زار حمص ليتفقد أحوال الرعية. فسألهم عن سعيد بن عامر، فاشتكى إليه بعضهم من ثلاثة أمور: أنه لا يخرج إليهم إلا في وقت متأخر من النهار، وأنه لا يجيب أحدًا في الليل، وأنه ليس له خادم.
فسأل عمر سعيدًا عن هذه الشكاوى، فقال سعيد: “أما تأخري عنهم، فإني ليس لي خادم، فأقوم في كل يوم فأعجن عجيني، ثم أخبزه، ثم أتوضأ، ثم أخرج إليهم. وأما أني لا أجيب أحدًا في الليل، فإني قد جعلت الليل لله عز وجل. وأما أني ليس لي خادم، فإني أرى أن عملي هذا يكفيني”.
فتأثر عمر بن الخطاب من زهده وورعه، وقال: “هذا والله هو الرجل الذي أردته”. ثم أمر له بمال، فقال سعيد: “ما أصنع به؟ وماذا يكفيني؟”. فقال عمر: “تنفقه على أهلك”. فقال سعيد: “أهلي لا يحتاجون إليه”. ثم وزعه على الفقراء والمساكين.
صفاته وأخلاقه
كان سعيد بن عامر يتمتع بالعديد من الصفات والأخلاق الحميدة، التي جعلته قدوة حسنة للمسلمين. من أبرز هذه الصفات:
- الزهد والورع: كان سعيد بن عامر زاهدًا في الدنيا، لا يحرص على جمع المال أو التمتع بمباهج الحياة. كان ورعًا يخاف الله في السر والعلن، ويتجنب الشبهات.
- العدل والإنصاف: كان سعيد بن عامر عادلاً في حكمه، ينصف المظلوم من الظالم. كان حريصًا على تطبيق الشريعة الإسلامية، ولا يفرق بين الناس في الحقوق والواجبات.
- الإخلاص والتفاني: كان سعيد بن عامر مخلصًا في عمله، متفانيًا في خدمة الإسلام والمسلمين. كان يعمل بجد واجتهاد، ولا يكل ولا يمل.
- التواضع والبساطة: كان سعيد بن عامر متواضعًا بسيطًا، لا يتكبر على الناس أو يتعالى عليهم. كان يعيش كواحد من عامة الناس، ويتعامل معهم بلطف واحترام.
- الكرم والجود: كان سعيد بن عامر كريمًا جوادًا، ينفق ماله على الفقراء والمساكين. كان حريصًا على إطعام الطعام وإغاثة الملهوف.
- الشجاعة والإقدام: كان سعيد بن عامر شجاعًا مقدامًا، لا يخاف في الله لومة لائم. كان يدافع عن الحق ويقف في وجه الظلم، ولا يتردد في بذل نفسه في سبيل الله.
مواقفه البارزة
تذكر كتب التاريخ العديد من المواقف البارزة لسعيد بن عامر، والتي تدل على رجاحة عقله وحسن تدبيره. من هذه المواقف:
- موقفه في حادثة خبيب بن عدي: كما ذكرنا سابقًا، كان سعيد بن عامر شاهدًا على تعذيب خبيب بن عدي في مكة. هذا المشهد أثر فيه كثيرًا، وكان سببًا في إسلامه.
- موقفه في ولاية حمص: أظهر سعيد بن عامر في ولاية حمص من العدل والإنصاف والزهد ما جعله قدوة حسنة. كان يتفقد أحوال الرعية، ويقضي حاجاتهم، ويحل مشاكلهم.
- موقفه مع عمر بن الخطاب: عندما زار عمر بن الخطاب حمص، واشتكى إليه بعض الناس من سعيد بن عامر، أوضح سعيد لعمر حقيقة الأمور، وبين له أنه يعمل بجد وإخلاص، وأنه يفضل خدمة الناس على راحته الشخصية.
وفاته
لم تذكر المصادر التاريخية تاريخًا محددًا لوفاة سعيد بن عامر، ولكن يُرجح أنه توفي في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه. ترك سعيد بن عامر رضي الله عنه إرثًا عظيمًا من الزهد والورع والعدل والإنصاف، وسيبقى قدوة حسنة للمسلمين على مر العصور.
خاتمة
سعيد بن عامر الجمحي، صحابي جليل ووالي عادل، يمثل قمة الزهد والإخلاص والتفاني في خدمة الإسلام. قصته تلهمنا في كل زمان ومكان، وتذكرنا بأهمية العدل والرحمة والزهد في الدنيا. لقد كان مثالًا يحتذى به في الإدارة الرشيدة والقيادة الحكيمة، وترك بصمة واضحة في تاريخ الإسلام.