البدايات والملاحظات الأولى
على الرغم من أن ألكسندر فليمنج يُعتبر مكتشف البنسلين، إلا أن هناك بعض الإشارات التاريخية التي تدل على أن استخدام الفطريات لعلاج الالتهابات كان معروفًا منذ القدم. في الحضارات القديمة، كان يُستخدم العفن الموجود على بعض الأطعمة لعلاج الجروح والتقرحات، ولكن لم يكن هناك فهم علمي لآلية عمل هذه المواد.
في عام 1870، لاحظ الطبيب الإنجليزي جون سكوت بوريج وجود تأثير مضاد للبكتيريا لبعض أنواع العفن. ومع ذلك، لم يتمكن من عزل المادة الفعالة أو تطويرها للاستخدام الطبي.
اكتشاف فليمنج العرضي
في عام 1928، كان ألكسندر فليمنج، وهو عالم بكتيريا اسكتلندي يعمل في مستشفى سانت ماري في لندن، يجري أبحاثًا على بكتيريا المكورات العنقودية الذهبية (Staphylococcus aureus). لاحظ فليمنج شيئًا غريبًا في إحدى مزارع البكتيريا الخاصة به. فقد وجد أن طبقًا يحتوي على البكتيريا قد تلوث بعفن أخضر مزرق، وأن البكتيريا المحيطة بهذا العفن قد ماتت أو توقف نموها.
أدرك فليمنج أن هذا العفن، الذي تم تحديده لاحقًا على أنه من نوع Penicillium notatum، يفرز مادة ذات خصائص مضادة للبكتيريا. أطلق فليمنج على هذه المادة اسم “البنسلين” نسبة إلى اسم العفن.
أجرى فليمنج بعض التجارب الأولية على البنسلين، ووجد أنه فعال ضد مجموعة واسعة من البكتيريا المسببة للأمراض، مثل المكورات العنقودية والمكورات العقدية. ومع ذلك، واجه فليمنج صعوبات في عزل البنسلين وتنقيته بكميات كافية للاستخدام الطبي. كما وجد أن البنسلين غير مستقر ويفقد فعاليته بسرعة.
تطوير البنسلين على يد تشين وفلوري
لم يتمكن فليمنج من تطوير البنسلين للاستخدام الطبي بمفرده، وتوقف عن العمل عليه لعدة سنوات. في أواخر الثلاثينيات، التفت فريق من الباحثين في جامعة أكسفورد إلى عمل فليمنج. كان هذا الفريق بقيادة هوارد فلوري وإرنست بوريس تشين، وكلاهما من علماء الكيمياء الحيوية.
تمكن فلوري وتشين من عزل البنسلين وتنقيته بكميات أكبر، وأثبتوا فعاليته في علاج الالتهابات البكتيرية في الحيوانات. في عام 1941، قاموا بتجربة سريرية على إنسان مصاب بعدوى بكتيرية خطيرة، وكانت النتائج مذهلة. تحسن المريض بشكل كبير بعد حقنه بالبنسلين، مما أكد إمكانات هذا الدواء في إنقاذ الأرواح.
خلال الحرب العالمية الثانية، كان هناك طلب كبير على البنسلين لعلاج الجنود المصابين بالتهابات. واجه فريق فلوري وتشين صعوبات في إنتاج البنسلين بكميات كافية لتلبية هذا الطلب المتزايد. لجأوا إلى الولايات المتحدة للحصول على المساعدة، وهناك تمكنوا من تطوير طرق جديدة لإنتاج البنسلين بكميات كبيرة عن طريق التخمير العميق.
بحلول نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبح البنسلين متاحًا على نطاق واسع، وأحدث ثورة في علاج الأمراض المعدية. تمكن الأطباء من علاج الالتهابات التي كانت قاتلة في السابق، مثل الالتهاب الرئوي والتهاب السحايا وتسمم الدم.
آلية عمل البنسلين
يعمل البنسلين عن طريق تثبيط إنزيم ضروري لبناء جدار الخلية البكتيرية. جدار الخلية هو هيكل واقٍ يحيط بالخلية البكتيرية ويحميها من العوامل الخارجية. عندما يمنع البنسلين بناء جدار الخلية، تصبح الخلية البكتيرية ضعيفة وعرضة للتلف، مما يؤدي إلى موتها.
البنسلين فعال ضد مجموعة واسعة من البكتيريا، ولكنه غير فعال ضد الفيروسات والفطريات. هناك أنواع مختلفة من البنسلين، ولكل نوع نطاق معين من الفعالية ضد أنواع مختلفة من البكتيريا.
تطور مقاومة المضادات الحيوية
مع الاستخدام الواسع النطاق للبنسلين والمضادات الحيوية الأخرى، بدأت البكتيريا في تطوير مقاومة لهذه الأدوية. تطور المقاومة يحدث عندما تتغير البكتيريا بطريقة تجعلها أقل عرضة لتأثير المضادات الحيوية. يمكن أن يحدث هذا عن طريق الطفرات الجينية أو عن طريق اكتساب جينات مقاومة من بكتيريا أخرى.
تعتبر مقاومة المضادات الحيوية مشكلة عالمية متزايدة الخطورة، حيث تجعل علاج الالتهابات البكتيرية أكثر صعوبة. يمكن أن تؤدي الالتهابات المقاومة للمضادات الحيوية إلى فترات إقامة أطول في المستشفى، وزيادة التكاليف الطبية، وزيادة خطر الوفاة.
لمكافحة مقاومة المضادات الحيوية، من المهم استخدام المضادات الحيوية بحكمة، فقط عند الضرورة، ووفقًا لتوجيهات الطبيب. يجب أيضًا تطوير مضادات حيوية جديدة لمكافحة البكتيريا المقاومة.
أنواع البنسلين
- البنسلين جي (Penicillin G): يُعطى عن طريق الحقن، ويستخدم لعلاج العديد من الالتهابات البكتيرية.
- البنسلين في (Penicillin V): يُعطى عن طريق الفم، ويستخدم لعلاج التهابات الحلق والجلد والأذن.
- الأموكسيسيلين (Amoxicillin): يُعطى عن طريق الفم، ويستخدم لعلاج العديد من الالتهابات البكتيرية، بما في ذلك التهابات الجهاز التنفسي والتهابات المسالك البولية.
- الأمبيسلين (Ampicillin): يُعطى عن طريق الحقن أو عن طريق الفم، ويستخدم لعلاج العديد من الالتهابات البكتيرية، بما في ذلك التهابات السحايا وتسمم الدم.
- الميثيسيلين (Methicillin): يستخدم لعلاج الالتهابات التي تسببها بكتيريا المكورات العنقودية الذهبية المقاومة للميثيسيلين (MRSA).
الآثار الجانبية للبنسلين
مثل أي دواء آخر، يمكن أن يسبب البنسلين بعض الآثار الجانبية. تشمل الآثار الجانبية الأكثر شيوعًا:
- الغثيان
- القيء
- الإسهال
- الطفح الجلدي
- الحكة
في حالات نادرة، يمكن أن يسبب البنسلين رد فعل تحسسي خطير يسمى الصدمة التأقية. يمكن أن تكون الصدمة التأقية مهددة للحياة وتتطلب علاجًا طبيًا فوريًا.
البنسلين والاكتشافات اللاحقة
أدى اكتشاف البنسلين إلى البحث عن مضادات حيوية أخرى. تبع ذلك اكتشاف الستربتوميسين والتتراسيكلين والعديد من المضادات الحيوية الأخرى، مما أدى إلى عصر ذهبي في علاج الأمراض المعدية. ومع ذلك، فإن ظهور مقاومة المضادات الحيوية يمثل تحديًا مستمرًا ويتطلب تطوير مضادات حيوية جديدة واستراتيجيات استخدام أفضل.
خاتمة
تاريخ البنسلين هو قصة رائعة عن الاكتشاف العرضي والتعاون العلمي والتأثير العميق على صحة الإنسان. من الملاحظة العرضية لفليمنج إلى العمل الرائد الذي قام به فلوري وتشين، أحدث البنسلين ثورة في علاج الأمراض المعدية وأنقذ ملايين الأرواح. ومع ذلك، فإن ظهور مقاومة المضادات الحيوية يمثل تحديًا مستمرًا يتطلب جهودًا متواصلة لحماية فعالية هذه الأدوية القيمة.
المراجع
- Penicillin | Discovery, Mechanism, Uses, & Side Effects | Britannica
- Alexander Fleming, Howard Florey, Ernst Chain: Penicillin | American Chemical Society
- The history of penicillin revisited: science & speculation – PMC
- Alexander Fleming, Ernst Boris Chain, and Howard Walter Florey | Science History Institute