مقدمة
ديفيد موراي شنايدر (11 نوفمبر 1918، بروكلين، نيويورك – 30 أكتوبر 1995، سانتا كروز، كاليفورنيا) كان عالم أنثروبولوجيا ثقافية أمريكيًا بارزًا. اشتهر بعمله الرائد في دراسة القرابة والثقافة الأمريكية، حيث تحدى المفاهيم التقليدية حول العلاقات الأسرية والرمزية الثقافية. كان شنايدر أستاذًا في جامعة شيكاغو، وقد ترك إرثًا دائمًا من خلال كتاباته وأفكاره التي أثرت على أجيال من علماء الأنثروبولوجيا.
نشأته وتعليمه
ولد ديفيد شنايدر في بروكلين، نيويورك، ونشأ في بيئة يهودية. حصل على درجة البكالوريوس من جامعة كورنيل في عام 1940، ثم خدم في البحرية الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية. بعد الحرب، التحق بجامعة هارفارد حيث حصل على درجة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا في عام 1949. تأثر شنايدر في هارفارد بعلماء بارزين مثل كليد كلوكهون وتالكوت بارسونز، مما ساهم في تشكيل اهتمامه بالأنثروبولوجيا الثقافية والنظرية الاجتماعية.
مسيرته الأكاديمية
بعد حصوله على الدكتوراه، انضم شنايدر إلى هيئة التدريس في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، قبل أن ينتقل إلى جامعة شيكاغو في عام 1960، حيث بقي حتى تقاعده. خلال فترة وجوده في شيكاغو، أصبح شخصية مؤثرة في قسم الأنثروبولوجيا، حيث قام بتدريس وتوجيه العديد من الطلاب الذين أصبحوا فيما بعد علماء بارزين في هذا المجال. تميزت مسيرة شنايدر بالبحث الميداني المكثف والتحليل النظري العميق، مما جعله من الرواد في دراسة الثقافة والقرابة.
أعماله وإسهاماته الرئيسية
تعتبر أعمال شنايدر من بين الأكثر تأثيرًا في الأنثروبولوجيا الثقافية، حيث قدم رؤى جديدة حول طبيعة القرابة والثقافة والرمزية. من بين أبرز أعماله:
- “القرابة الأمريكية: مقدمة ثقافية” (American Kinship: A Cultural Account): يعتبر هذا الكتاب عملًا كلاسيكيًا في الأنثروبولوجيا، حيث يقدم شنايدر تحليلًا شاملاً لنظام القرابة في الولايات المتحدة. يجادل شنايدر بأن القرابة في الثقافة الأمريكية لا تعتمد فقط على العلاقات البيولوجية، بل أيضًا على المعاني الثقافية والرمزية التي يضفيها الناس على هذه العلاقات. يوضح كيف أن مفاهيم مثل “الدم” و”الزواج” تحمل دلالات ثقافية عميقة تؤثر على كيفية فهمنا للعلاقات الأسرية.
- “الثقافة: تعريف ومراجعة” (Culture: A Definition and Review): في هذا الكتاب، يقدم شنايدر مراجعة نقدية لمفهوم الثقافة في الأنثروبولوجيا، ويقترح تعريفًا جديدًا يركز على الأنظمة الرمزية التي تشكل سلوك الناس ومعتقداتهم. يرى شنايدر أن الثقافة ليست مجرد مجموعة من العادات والتقاليد، بل هي نظام معقد من المعاني والرموز التي توجه أفعالنا وتفسيراتنا للعالم من حولنا.
- “بعض الملاحظات حول دراسة القرابة” (Some Modest Proposals for the Study of Kinship): يقدم هذا المقال مجموعة من الاقتراحات حول كيفية دراسة القرابة بطريقة أكثر فعالية، مع التركيز على أهمية فهم المعاني الثقافية التي يضفيها الناس على العلاقات الأسرية. يدعو شنايدر إلى الابتعاد عن النماذج البيولوجية والاقتصادية التي كانت سائدة في دراسة القرابة، والتركيز بدلاً من ذلك على الأنظمة الرمزية التي تشكل فهمنا للعلاقات الأسرية.
- “الرمز للرمز” (The Symbol for Symbolism): استكشاف لأهمية الرموز في فهم الثقافة، وكيف أن الرموز تحمل معاني ثقافية عميقة تؤثر على سلوك الناس وتصوراتهم للعالم. يوضح شنايدر كيف أن الرموز ليست مجرد تمثيلات للأشياء، بل هي أدوات ثقافية قوية تشكل فهمنا للواقع.
القرابة الأمريكية: تحليل ثقافي
في كتابه “القرابة الأمريكية: تحليل ثقافي”، يقدم شنايدر تحليلًا رائدًا لنظام القرابة في الولايات المتحدة. يجادل بأن القرابة في الثقافة الأمريكية لا تعتمد فقط على الروابط البيولوجية، بل هي نظام ثقافي معقد من الرموز والمعاني. يقترح شنايدر أن العلاقات الأسرية في الولايات المتحدة تتشكل من خلال مفهومين رئيسيين: “المادة الحيوية” و”القانون”. “المادة الحيوية” تشير إلى الروابط البيولوجية التي تربط الأفراد، بينما “القانون” يشير إلى القواعد والمعايير الاجتماعية التي تحدد حقوق وواجبات أفراد الأسرة.
ينتقد شنايدر في كتابه النظرة البيولوجية للقرابة، التي ترى أن العلاقات الأسرية تعتمد بشكل أساسي على الروابط الدموية. يجادل بأن هذه النظرة تتجاهل الأهمية الثقافية للمعاني والرموز التي يضفيها الناس على العلاقات الأسرية. على سبيل المثال، يوضح شنايدر كيف أن مفهوم “الأمومة” في الثقافة الأمريكية لا يقتصر فقط على المرأة التي تلد الطفل، بل يشمل أيضًا المرأة التي تربي الطفل وتعتني به.
بالإضافة إلى ذلك، يستكشف شنايدر دور الزواج في نظام القرابة الأمريكي. يرى أن الزواج ليس مجرد اتحاد بين رجل وامرأة، بل هو أيضًا مؤسسة اجتماعية وثقافية تحدد حقوق وواجبات الزوجين تجاه بعضهما البعض وتجاه أطفالهما. يوضح كيف أن الزواج في الثقافة الأمريكية يتميز بالاستقلالية والاختيار الحر، حيث يحق للأفراد اختيار شركائهم بحرية تامة.
مفهوم الثقافة عند شنايدر
يرى شنايدر أن الثقافة ليست مجرد مجموعة من العادات والتقاليد، بل هي نظام معقد من المعاني والرموز التي توجه سلوك الناس ومعتقداتهم. يقترح أن الثقافة تتكون من “أنظمة رمزية” تحدد كيفية فهم الناس للعالم من حولهم وكيفية تفاعلهم معه. هذه الأنظمة الرمزية تشمل اللغة والدين والفن والأخلاق والقانون.
يؤكد شنايدر على أهمية فهم المعاني الثقافية التي يضفيها الناس على الأشياء والأفعال. يرى أن الأشياء والأفعال لا تحمل معاني جوهرية، بل تكتسب معانيها من خلال السياق الثقافي الذي توجد فيه. على سبيل المثال، يوضح كيف أن العلم الأمريكي يحمل معاني مختلفة بالنسبة لأشخاص مختلفين، اعتمادًا على خلفياتهم الثقافية وتجاربهم الشخصية.
ينتقد شنايدر في أعماله النظرة الاختزالية للثقافة، التي تحاول تفسير الظواهر الثقافية من خلال عوامل بيولوجية أو اقتصادية أو نفسية. يجادل بأن هذه النظرة تتجاهل الأهمية الذاتية للثقافة، وتفشل في فهم كيف أن الثقافة تشكل سلوك الناس ومعتقداتهم بطرق معقدة ومتنوعة.
نقد أعماله
على الرغم من أهمية أعمال شنايدر وتأثيرها الكبير على الأنثروبولوجيا الثقافية، إلا أنها لم تخل من النقد. يرى بعض النقاد أن تركيز شنايدر على الأنظمة الرمزية يتجاهل الأهمية المادية والاقتصادية للثقافة. يجادلون بأن الثقافة ليست مجرد نظام من المعاني والرموز، بل هي أيضًا نظام من الممارسات المادية والاقتصادية التي تؤثر على حياة الناس.
بالإضافة إلى ذلك، ينتقد البعض الآخر تركيز شنايدر على الثقافة الأمريكية، ويرون أنه يميل إلى تعميم الاستنتاجات التي توصل إليها على ثقافات أخرى. يجادلون بأن الثقافة الأمريكية فريدة من نوعها، وأن الاستنتاجات التي توصل إليها شنايدر قد لا تكون قابلة للتطبيق على ثقافات أخرى.
تأثيره وإرثه
على الرغم من هذه الانتقادات، لا يمكن إنكار تأثير أعمال شنايدر على الأنثروبولوجيا الثقافية. لقد ساهمت أعماله في تطوير فهم أعمق لطبيعة القرابة والثقافة والرمزية. كما أنها ألهمت العديد من العلماء لإجراء المزيد من البحوث حول هذه الموضوعات. يعتبر شنايدر شخصية بارزة في تاريخ الأنثروبولوجيا الثقافية، وسيظل إرثه حيًا من خلال أعماله التي لا تزال تدرس وتناقش حتى اليوم.
لقد أثرت أفكار شنايدر على مجالات أخرى غير الأنثروبولوجيا، مثل علم الاجتماع والدراسات الثقافية. فقد ألهمت الباحثين في هذه المجالات لتحليل الثقافة بطريقة أكثر تعقيدًا ودقة، مع التركيز على أهمية المعاني والرموز التي تشكل سلوك الناس ومعتقداتهم.
خاتمة
كان ديفيد إم. شنايدر عالم أنثروبولوجيا ثقافية أمريكيًا بارزًا، اشتهر بعمله الرائد في دراسة القرابة والثقافة الأمريكية. قدم شنايدر رؤى جديدة حول طبيعة القرابة والثقافة والرمزية، وتحدى المفاهيم التقليدية حول العلاقات الأسرية والرمزية الثقافية. على الرغم من بعض الانتقادات، لا يمكن إنكار تأثير أعماله على الأنثروبولوجيا الثقافية والمجالات الأخرى ذات الصلة. سيظل إرثه حيًا من خلال أعماله التي لا تزال تدرس وتناقش حتى اليوم.