خلفية تاريخية
هيمنت السلوكية على العلوم السياسية بعد الحرب العالمية الثانية. ركز السلوكيون على الأساليب الكمية والتجريبية، وسعوا إلى تطوير نظرية علمية للسياسة من خلال دراسة سلوك الأفراد والجماعات. اعتقدوا أن السياسة يمكن فهمها من خلال تحليل الأنماط المتكررة في السلوك السياسي، مع التركيز على البيانات القابلة للقياس. مع ذلك، تعرضت السلوكية للانتقادات بسبب تركيزها المفرط على المنهجية، وإهمالها القيم والمعايير والأخلاق. اتُهم السلوكيون بأنهم فصلوا البحث عن القضايا الاجتماعية والسياسية الملحة.
ظهرت ما بعد السلوكية كحركة مضادة للسلوكية، كرد فعل على هذه الانتقادات. كان رواد ما بعد السلوكية، مثل ديفيد إيستون، يعتقدون أن السلوكية كانت ضيقة للغاية في نطاقها ومنهجيتها، وأنها فشلت في معالجة القضايا الأكثر أهمية في السياسة. دعا ما بعد السلوكيون إلى علم سياسي أكثر صلة بالمجتمع، ويركز على القضايا ذات الأهمية العملية.
الخصائص الرئيسية لما بعد السلوكية
تتميز ما بعد السلوكية بعدة خصائص رئيسية:
- التركيز على الأهمية: يرى ما بعد السلوكيون أن العلوم السياسية يجب أن تكون ذات صلة بالمجتمع، وأن تدرس القضايا التي تهم المواطنين. يجب أن يركز البحث على حل المشكلات، وليس مجرد جمع البيانات وتحليلها.
- التركيز على القيم: يدرك ما بعد السلوكيون أهمية القيم والمعايير والأخلاق في السياسة. يجادلون بأن البحث السياسي يجب أن يأخذ في الاعتبار هذه القيم، وأن يسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة.
- التركيز على الفعل: يدعو ما بعد السلوكيون إلى علم سياسي يهدف إلى إحداث تغيير في العالم. يجب أن يكون الباحثون ملتزمين بالدفاع عن القضايا التي يؤمنون بها، وأن يشاركوا في العملية السياسية.
- رفض الحياد القيمي: يرفض ما بعد السلوكيون فكرة أن الباحثين يمكنهم أن يكونوا محايدين تمامًا في بحثهم. يجادلون بأن جميع الباحثين لديهم قيم وتحيزات، وأن هذه القيم تؤثر على بحثهم. يجب أن يكون الباحثون على دراية بقيمهم وتحيزاتهم، وأن يعترفوا بها علانية.
- المنهجية المتعددة: يشجع ما بعد السلوكيون استخدام مجموعة متنوعة من المنهجيات في البحث، بما في ذلك المنهجيات الكمية والنوعية. يعتقدون أنه لا توجد طريقة واحدة صحيحة للبحث، وأن الباحثين يجب أن يستخدموا الأساليب التي تناسب أسئلة البحث.
أهداف ما بعد السلوكية
تهدف ما بعد السلوكية إلى تحقيق عدة أهداف:
- جعل العلوم السياسية أكثر صلة بالمجتمع: يهدف ما بعد السلوكيون إلى جعل العلوم السياسية أكثر صلة بالمجتمع، من خلال التركيز على القضايا التي تهم المواطنين، مثل الفقر والظلم والتمييز.
- تعزيز العدالة الاجتماعية والمساواة: يهدف ما بعد السلوكيون إلى تعزيز العدالة الاجتماعية والمساواة، من خلال دراسة القضايا التي تؤثر على الفئات المهمشة، والدفاع عن السياسات التي تهدف إلى تحسين أوضاعهم.
- تشجيع المشاركة السياسية: يشجع ما بعد السلوكيون المشاركة السياسية، من خلال تشجيع الباحثين على المشاركة في العملية السياسية، وتقديم المشورة لصانعي السياسات، والمساهمة في النقاش العام.
- تغيير العالم: يهدف ما بعد السلوكيون إلى تغيير العالم، من خلال إلهام الآخرين لاتخاذ إجراءات لحل المشكلات الاجتماعية والسياسية.
المساهمات والانتقادات
قدمت ما بعد السلوكية مساهمات مهمة للعلوم السياسية:
- إعادة العلوم السياسية إلى صلتها بالواقع: ساعدت ما بعد السلوكية في إعادة العلوم السياسية إلى صلتها بالواقع، من خلال التركيز على القضايا التي تهم المواطنين.
- تعزيز أهمية القيم والمعايير والأخلاق: ساعدت ما بعد السلوكية في تعزيز أهمية القيم والمعايير والأخلاق في العلوم السياسية، من خلال التأكيد على أهمية العدالة الاجتماعية والمساواة.
- تشجيع المشاركة السياسية: شجعت ما بعد السلوكية المشاركة السياسية، من خلال تشجيع الباحثين على المشاركة في العملية السياسية، وتقديم المشورة لصانعي السياسات، والمساهمة في النقاش العام.
على الرغم من مساهماتها، تعرضت ما بعد السلوكية للانتقادات:
- عدم وجود منهجية واضحة: يرى البعض أن ما بعد السلوكية تفتقر إلى منهجية واضحة، وأنها غير قادرة على تقديم تفسيرات علمية للظواهر السياسية.
- صعوبة تحقيق الحياد القيمي: يرى البعض أنه من الصعب تحقيق الحياد القيمي في البحث، وأن الباحثين قد يكونون عرضة للتحيز.
- عدم التركيز الكافي على البحث العلمي: يرى البعض أن ما بعد السلوكية لا تركز بما فيه الكفاية على البحث العلمي، وأنها تركز بشكل مفرط على القيم والمعايير والأخلاق.
العلاقة مع الحركات الفكرية الأخرى
تتشارك ما بعد السلوكية في بعض الأفكار مع الحركات الفكرية الأخرى، مثل:
- النظرية النقدية: تتشارك ما بعد السلوكية مع النظرية النقدية في الاهتمام بالعدالة الاجتماعية والمساواة، وفي رفضها لفكرة الحياد القيمي.
- النظرية النسوية: تتشارك ما بعد السلوكية مع النظرية النسوية في الاهتمام بالقضايا التي تؤثر على النساء، وفي الدعوة إلى التغيير الاجتماعي.
- ما بعد الحداثة: تتشارك ما بعد السلوكية مع ما بعد الحداثة في رفضها للمفاهيم الشاملة، وفي إدراكها لأهمية السياق الثقافي والاجتماعي في فهم الظواهر السياسية.
أهمية ما بعد السلوكية اليوم
لا تزال ما بعد السلوكية مهمة في العلوم السياسية اليوم. إنها توفر إطارًا للبحث الذي يركز على القضايا التي تهم المواطنين، وتعزز أهمية القيم والمعايير والأخلاق في السياسة. كما أنها تشجع الباحثين على المشاركة في العملية السياسية، والمساهمة في النقاش العام. في عالم يواجه تحديات متزايدة، بما في ذلك التفاوت الاجتماعي والظلم والتمييز، توفر ما بعد السلوكية رؤى قيمة لمواجهة هذه التحديات.
التأثير على العلوم السياسية
تركت ما بعد السلوكية تأثيرًا كبيرًا على العلوم السياسية. لقد أدت إلى تغييرات في كيفية إجراء البحوث السياسية، وكيفية فهم السياسة. تشمل التأثيرات:
- زيادة الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والسياسية الملحة: شجعت ما بعد السلوكية الباحثين على الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والسياسية الملحة، مثل الفقر والظلم والتمييز.
- زيادة استخدام المنهجيات المتنوعة: شجعت ما بعد السلوكية على استخدام مجموعة متنوعة من المنهجيات في البحث، بما في ذلك المنهجيات الكمية والنوعية.
- زيادة الوعي بأهمية القيم والمعايير والأخلاق: ساعدت ما بعد السلوكية في زيادة الوعي بأهمية القيم والمعايير والأخلاق في السياسة، وفي البحث السياسي.
- تشجيع المشاركة السياسية: شجعت ما بعد السلوكية على المشاركة السياسية، من خلال تشجيع الباحثين على المشاركة في العملية السياسية، وتقديم المشورة لصانعي السياسات، والمساهمة في النقاش العام.
نقد السلوكية من منظور ما بعد السلوكية
ركزت ما بعد السلوكية على عدة انتقادات للسلوكية، أبرزها:
- التركيز المفرط على المنهجية: انتقد ما بعد السلوكيون السلوكيين لتركيزهم المفرط على المنهجية، وإهمالهم للقضايا الجوهرية. جادلوا بأن السلوكيين كانوا مهتمين بكيفية جمع البيانات أكثر من اهتمامهم بما تعنيه هذه البيانات.
- الفصل بين البحث والمجتمع: اتهم ما بعد السلوكيون السلوكيين بفصل البحث عن المجتمع. جادلوا بأن السلوكيين كانوا يجرون بحوثًا غير ذات صلة بالمجتمع، وأنهم لم يسعوا إلى إحداث تغيير في العالم.
- إهمال القيم والمعايير: انتقد ما بعد السلوكيون السلوكيين لإهمالهم للقيم والمعايير والأخلاق. جادلوا بأن السلوكيين كانوا يعتقدون أن السياسة يمكن فهمها بمعزل عن القيم، وأن هذا النهج كان غير دقيق.
- الحياد القيمي: رفض ما بعد السلوكيون فكرة الحياد القيمي. جادلوا بأن جميع الباحثين لديهم قيم وتحيزات، وأن محاولة التظاهر بالحياد كانت غير صادقة.
المنهجية في ما بعد السلوكية
على عكس السلوكية التي ركزت على الأساليب الكمية والتجريبية، تتبنى ما بعد السلوكية منهجية أكثر مرونة وتنوعًا. يرى ما بعد السلوكيون أن هناك طرقًا متعددة للبحث، وأن الباحثين يجب أن يستخدموا الأساليب التي تناسب أسئلة البحث. تشمل المنهجيات المستخدمة في ما بعد السلوكية:
- البحث النوعي: يشمل البحث النوعي المقابلات، والملاحظة بالمشاركة، وتحليل المحتوى. يسمح هذا النهج للباحثين بفهم وجهات نظر الأفراد والجماعات، واستكشاف القضايا المعقدة بعمق.
- البحث التاريخي: يستخدم البحث التاريخي المصادر الأولية والثانوية لفهم الأحداث السياسية الماضية. يمكن أن يوفر هذا النهج سياقًا تاريخيًا مهمًا للقضايا السياسية المعاصرة.
- البحث النقدي: يهدف البحث النقدي إلى تحليل وتقييم السياسات والممارسات السياسية. يستخدم هذا النهج النظريات والمنهجيات المختلفة لتحديد أوجه القصور في السياسات، واقتراح بدائل.
- الدراسات المقارنة: تقارن الدراسات المقارنة السياسات والمؤسسات في مختلف البلدان أو المناطق. يسمح هذا النهج للباحثين بتحديد الأنماط والاتجاهات، وفهم أسباب الاختلافات في النتائج السياسية.
دور الباحث في ما بعد السلوكية
تختلف رؤية ما بعد السلوكيين لدور الباحث عن رؤية السلوكيين. يرى السلوكيون أن الباحث يجب أن يكون محايدًا وغير شخصي، وأن يركز على جمع البيانات وتحليلها. على النقيض من ذلك، يرى ما بعد السلوكيون أن الباحث يجب أن يكون ناشطًا وملتزمًا. يجب أن يكون الباحث على دراية بقيمه وتحيزاته، وأن يسعى إلى إحداث تغيير في العالم. تشمل الأدوار التي يلعبها الباحث في ما بعد السلوكية:
- المحلل: يقوم الباحث بتحليل القضايا السياسية، وتحديد الأسباب والآثار.
- الناقد: ينتقد الباحث السياسات والممارسات السياسية، ويسعى إلى تحسينها.
- الناشط: يشارك الباحث في العملية السياسية، ويدافع عن القضايا التي يؤمن بها.
- المعلم: يعلم الباحث الآخرين حول القضايا السياسية، ويثقفهم حول حقوقهم ومسؤولياتهم.
التحديات المستقبلية لما بعد السلوكية
تواجه ما بعد السلوكية بعض التحديات المستقبلية:
- الحفاظ على الصلة بالمجتمع: يجب على ما بعد السلوكيين أن يواصلوا التركيز على القضايا التي تهم المواطنين، وأن يظلوا على صلة بالمجتمع المتغير.
- تجنب الوقوع في السطحية: يجب على ما بعد السلوكيين تجنب الوقوع في السطحية، وأن يواصلوا إجراء بحوث متعمقة ومدروسة.
- التغلب على الانتقادات: يجب على ما بعد السلوكيين أن يتغلبوا على الانتقادات الموجهة إليهم، وأن يثبتوا أن أساليبهم فعالة ومفيدة.
- الحفاظ على التنوع: يجب على ما بعد السلوكيين الحفاظ على التنوع في وجهات النظر والمنهجيات، وأن يشملوا وجهات نظر متنوعة في أبحاثهم.
خاتمة
ما بعد السلوكية هي حركة فكرية مهمة في العلوم السياسية، والتي قدمت مساهمات كبيرة في فهم السياسة. دعت إلى علم سياسي أكثر صلة بالمجتمع، وأكثر تركيزًا على القيم والمعايير والأخلاق، وتشجع على المشاركة السياسية. على الرغم من تعرضها للانتقادات، لا تزال ما بعد السلوكية ذات صلة في عالم يواجه تحديات متزايدة. من خلال تبني منهجية متعددة، والتركيز على القضايا التي تهم المواطنين، يمكن لما بعد السلوكية أن تستمر في لعب دور مهم في تشكيل العلوم السياسية في المستقبل.